وكان للمعتضد عباد دار خاصة للشعراء ينزلونها على الرحب والسعة؛ فإذا جاء يوم الشعر وهو يوم الاثنين من كل أسبوع دخلوا عليه فلا يقابل غيرهم ولا يسمع إلا شعرهم. ولقد بلغ من عنايته بهم ورعايته لأدبهم أن جعل لهم رئيساً يرجعون إليه، ونظاماً يرتبون عليه، وسجلاً يحصون فيه.
ولو ذهبت أستقصي مجالس الأدب والعلم في عواصم العراق والشام ومصر والأندلس لاسترخى في يدي عنان القلم، وتشتت في ذهني سياق الموضوع.
تواردت على خاطري هذه المآثر العربية التاريخية وأنا أنعم لأول مرة بالحديث إلى صاحب المعالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا وزير المواصلات؛ وكنت قبل هذا اللقاء قد عرفته بالسماع، والسماع بسري خلقه وسمو أدبه مستفيض، فلم يجرد ذكره على لسان أديب إلا روى عن مجالسه، ونوه بمواهبه، وحدث عن أياديه. وكنت أعلم أنه استن لنفسه سنة وزراء بني بويه، فاتخذ له بطانة من صفوة الشعراء الشباب يأنس إليهم في داره، ويشبل عليهم بجاهه، ويستعين بهم في عمله، ويجزل لهم من فضله. وهم يعلمون أن الأدب وحده هو الذي أحظاهم عنده، فلا يفتئون يتنافسون في تحصيله ويتفاضلون في تجويده. فلولا أن لهذا الوزير الشاعر طبعاً أصيلاً في الأدب استفادة من مناشئ فطرته وتقاليد أسرته، لما انبثق في حيلته العاملة ذلك النور السماوي الذي استحال أدباً في نفسه يتخلقه ويعمل به، وأدباً على لسانه يقول ويفتن فيه، وأدباً على سمعه يعيه ويشجع عليه
وللقطب إبراهيم الدسوقي باشا نظراء في الوزراء لم يجد الدهر بأمثالهم على دولة من دول العرب في وقت واحد منذ دالت الهاشمية في العراق، والأموية في الأندلس؛ نذكر منهم الباشوات أصحاب المعالي: لطفي السيد، ومحمد حسين هيكل، ومصطفى عبد الرزاق، ونجيب الهلالي، ومكرم عبيد، وطه السباعي، وحفني محمود. ولكل وزير من هؤلاء الوزراء والأدباء طفاوة من ناشئة الأدب ومنشئيه، تتسع أو تضيق على حسب ما يبذل لها من نفسه، ويفيض عليها من نشاطه. وهم عسيون إذا هم استجابوا لملكة الأدب فيهم، وواجب العربية والعروبة عليهم، أن ينفخوا من رُوحهم ورَوْحهم في جذوة هذه النهضة الأدبية حتى تستمر وتنتشر فتصهر بقوتها الجامد، وتنعش بحرارتها الخامد، وتنير بأشعتها الطريق.