وطال حديثنا عن قضاة النار وأحوالهم فقال صاحبنا بعد صمت طويل: هؤلاء يسمونهم عندنا في الجبل (لصوص الفيء). قلنا: وما لصوص الفيء؟ فأغرب في الضحك وتشبث على عادته بصمت المحترز فما زلنا به حتى رضي أن يحدثنا فقال:
(يحكي أن مكاريا من أهل القرى كان يملك من وسائل العيش بغلاً يكاريه الناس ويعيش من كرائه مع زوجه وأطفاله، فمرض البغل يوماً مرضاً أقعده وأقعد صاحبه عن العمل، فقام مع عياله في الجانب البغل يداوونه ويدعون له بالشفاء. ولما اشتدت وطأة الداء نذر الرجل على نفسه أن يعطي رجلاً مشهوراً عندهم بالصلاح والتقى والولاية مائة قرش إن شفى الله بغله. ولكن الله لم يقبل نذره ومات البغل، فبكاه الصغار والكبار ما شاء الله أن يبكوه. وفي اليوم الثاني أخذ الرجل ما يستغني عنه من متاع البيت فباعه واشترى بثمنه بغلاً آخر. فما كاري عليه أياماً حتى سرت للبغل من المعلف عدوى المرض فقام بجانبه الليل والنهار يصلي ويبتهل وينذر النذور لأكبر الأولياء وأعظم الأبرار، ولكن البغل مات ولم تنفع فيه النذور للصالحين. فبكاه أصحابه المساكين الثكالى ثم جمعوا بقية ما في البيت من متاع فباعوه واشتروا بثمنه بغلاً ثالثاً. وما مضت عليه أيام حتى سرت إليه العدوى، فطاش لب لبرجل وضاع صوابه ورأى أن نذوره للأولياء الأبرار الأطهار لم تشفع ولم تنفع، فأصابه ما يصيب كل مفجوع عند هول الكارثة من ذهول وسخرية واستخفاف، فبدا له هذه المرة أن يجعل نذره لأشد الناس شراً؛ وعظم النذر فجعله ألفاً.
وشاءت حكمة الله أن تكون عدوى المرض خفيفة وأن يقوي عليها البغل الجديد فشفى. وعاد الرجل إلى عمله، فما زال يشتد في طلب الكسب حتى اجتمع لديه النذر فحمله وهبط به المدينة يتلمس فيها من يستوجبه فعمد إلى أشهر بيت للفسق والفجور وانتحى ناحية يراقب منها الناس حتى اختار أشدهم تهتُّكاً وأشنعهم فسقاً فاقترب منه وحدثه بحديث نذره ثم قال له والخوف يعقد لسانه: (لا تغضب يا هذا وارحم ضعفي وذلتي فإني أردت وفاء نذري فلم أجد من هو أعظم منك شراً فحق علي أن أوفيكه)
فما سمع الرجل مقالته حتى أغرب في الضحك؛ ثم أطال الصمت حتى أوجس القروي من طول صمته وكآبته شراً. ثم استعبر حتى وجمت القاعة الصاخبة لنحيبه، ولما سكنت نفسه قال: (لقد ضللت يا صاح والله بغيتك؛ وكدت تعطي نذرك من لا يستحقه. فما أنا بأعظم