الناس شراً، وإنما أنا رجل ابتلاني الجبار بذُلَّ الشهوات فلا أستطيع إلى فكاك نفسي من أسرها سبيلاً. ولو رأياني كيف أصحو نادماً ذليلاً لرثيت لي ولرجوت أن يغفر الرحمن ذنوبي. . . فإليك عني، وعليك باللصوص وقطاع الطريق فهم أحق بنذرك مني)
فخرج القروي من الحانة وقد سره أنه وجد ضالته واسترشد برأي (سوقيّ) يعرف حقائق الأمور، وما زال يسأل عن قطاع الطريق أين مكمنهم ومن أشدهم فتكا وبطشاً، حتى استرشد. فركب بغله وسار في حلك الليل حتى أشرف على الكمين الذي يقطع الشرير منه الطريق مع عصبته؛ فما شعر اللصوص بالرجل حتى اكتنفوه فقال لهم: على رسلكم فإنما إليكم قصدت. أين رئيسكم؟ فدلوه عليه فحدثه بحديث نره فأطرق اللص إطراق الحزين، ثم استعبر حتى ابتلَّت لحيته ثم قال:(إنك يا هذا ضللت بغيتك فما نحن إلا فقراء عضتنا الفاقة وضاقت بنا سبل العيش فتخذنا السلب حرفة نكسب بها قوت عيالنا، ولو وجدنا إلى الرزق سبيلاً غير هذا لسلكناه. ولو كشف الله لك قلوبنا لرأيت ألماً وندماً، ولرجوت لنا عند الرحمن عفواً وكرماً. إذا أردت يا صاح الوفاء بنذرك فدعنا نحن (حرامية الشمس)، ولصوص التعب والنصب والخوف والخطر واذهب إلى (حرامية الفيء)؛ فإنهم أحق بنذرك. . .)
فقال القروي: ومن هم حرامية الفيء لأذهب إليهم؟
فقال له شيخ العصابة:
أولئك هم القضاة الذين ولاهم الله أمور عباده وحكمتهم في الدماء والأعراض والأموال ليقضوا فيها بالحق وجعل كلمتهم هي العليا، وأنعم عليهم بجاه كبير ورزق كثير وعيش غزير فما رعوا الله في عباده ذمة، ولا في حقوقه وحدوده حرمة، فلا ظالم إلا نصروه، ولا مظلوم إلا خذلوهن ولا عرض إلا انتهكوه، ولا مال ولا وقف إلا أكلوه. . .
أولئك هم حرامية الفيء وأولئك هم شر البرية. . .
فرجع القروي المسكين بذل الخيبة وقصد إلى قاضي المدينة فرأى شيخاً يفيض الجلال عن جوانب عمامته، ويتفجر النور من قسمات طلعته، ويتقطر التقى من أطراف لحيته، فقال: يا سبحان الله كيف يكون هذا شر البريّة وكيف تتحرك شفتاي بحديث النذْر إليه؟
وما زال واقفاً حتى انتهى القاضي من القضاة (على) حقوق العباد، فرآه في جانب القاعة