لست أستطيع أن أترجم لك عمّا لليالي الصحراء من معنى في نفسي، لأن لغة الألسنة لا تترجم عن القلوب. ويا ليتني أقدر أن أصف لك تلك الكائنات الخفية التي تعيش في ليالي الصحراء فتخاطب القلوب بما لا تنقله الأقلام
واشهدوا عليّ أني أوثر الصحراء على كل مظاهر الطبيعة المطبوعة، إلا الأودية والجبال، فإن للجبال السامقة ذات الصخور المائلة كالجبابرة لا تبلغ هامها النسور ولا العقبان، ولا يسكنها إلا الثلج الأبيض. . . والأودية العميقة التي لا يبلغ قرارتها إلا الشلال المتحدر من أعالي الجبال، ولا يعيش فيها إلا السواقي الحائرة التي تهيم على وجهها ذاهلة لا تصحو إلا على جرجرة أمواج البحر الذي يفتح فاه لابتلاعها. . . وإن في التواء الوادي حتى يضيع الطريق فيه، وفي اختفاء الشِّعب الضيق خلال الصخور، وفي ضلال الساقية بين الحشائش والحجارة، لمعنى من معاني المجهول لا ألقاه في الصحراء المكشوفة العارية؛ ولكن للصحراء سحرها وجمالها وإني لأفضلها على السهول والبساتين. . .
سلكنا بعد القُريّات مهامه وفلوات لا يعرف لها أول ولا آخر. ولا أدري ولا يدري أحد ممن كان معنا أين موقعها على المصوّر الجغرافي. وكنا كلما زدنا إيغالاً في الصحراء زادت بنا بعداً عن مظاهر الحياة، حتى أحسسنا كأن قد ودّعنا هذا العالم، وكأن دمشق وبغداد والقاهرة صور شعرية تخطر على البال ويدركها الخيال ولكن الواقع خلوٌ منها، واسترحنا من هموم الاجتماع ومشاغل السياسة وأعباء الفكر واستسلمنا إلى المقادير، فغدا شعورنا بالحياة كشعور من يرى في نومه أنه سائر على وجه الريح، أو مضطجع على صفحة الماء يحمله إلى حيث يشاء، فإما أن يغرق وإما أن يبلغ ما يريد، ولكنه على الحالين راضٍ قانع لا يشكو ولا يتبرم
وكان همنا الأكبر أن نتأمل الأرض أو ننظر في الفضاء لنأمن عثرة السيارة وننجو من الضلال، وما في البرية علامة يهتدي بها إلا النجوم، فعرفت بذلك معنى قوله تعالى:(وبالنجم هم يهتدون). وعرفت سرّ اعتماد العرب عليها في تحديد مواقع البلدان حتى أن الشاعر المحتضر ليسرّه أن سرى سهيلاً لأنه يذكره بلاده وأرضه. . .
وكنا نمر على الأرض المتماسكة الصلبة فنحمد الله عليها ونسرع. ثم نمر على القاع،