والقاع في عرف البدو أرض طينية كان فيها غدير من المطر فجف وترك فيها شقوقاً وغادرها مستوية كالطبق، ويسمى القاع في بادية الشام (على طريق بغداد) طليحة. . . ونمر على مسيل قد جرف الماء ترابه وأبقى فيه حجارة كباراً وصغاراً، وهو والشعب شر ما نمر عليه، والشعب في عرفهم أرض فيها رمل قليل هشّ ونبات صحراوي. . . أو نصعد رابة أو تلة، وامتدت هذه المرحلة (من القريات إلى تبوك) أربع ليال، مررنا فيها على مياه من مياه العرب، وهي آبار منتنة خبيثة الطعم واللون والرائحة، تضع المنديل بين فمك ومائها فتلقي عليه مثال الوحل أو ما هو أخبث، تسمى غطى والعيساوية والفجر، ولم نصادف في هذه المرحلة ماء غير ذلك. . .
ولا تسألني أين هذه المياه، ولا تطلب إليَّ تحديداً ولا يقيناً فلست أعرف ذلك، وإنما أعرف أننا تركنا وادي سرحان عن شمائلنا وسرنا قِبَل الجنوب حتى لاحت لنا عن اليمين جبال عالية، فأممناها حتى إذا اقتربنا منها سرنا بحذائها على أرض ما رأينا أعجب منها، فهي أرض سوية متسعة مشينا في طرفها تسعين كيلاً، فيها حجارة سود دقائق مرصوفة رصفاً كأنها أرض ميدان واسع في مدينة كبيرة فرشت وثبتت بالمداحل، وهم يسمونها (بسيطة) بصيغة التصغير، وسلوا أهل الجغرافيا يعرفوكم موضعها على المصور، حتى وجدنا ثغرة في الجبل فدخلنا منها، فإذا نحن في واد ما رأيت في عمري مكاناً أوحش منه، وكلما أبعدنا فيه ازدادت وحشتنا، ولم يكن حولنا إلا الصخور والتلاع والفلل الشامخة، والوادي يتشعب بنا ويتفرع، ونحن منفردون بين ذلك كله، وطال الوادي حتى أمسى علينا المساء فبتنا به، ولم ندر أننا ضالون حتى أصبحنا غداة الغد، فخالط قلوبنا الرعب من أن تكون خاتمة مطافنا أن ندفن في بقعة لا يمر فيها إنسان ونحرم قبراً يستوقف السالكين، ويستجديهم دعوة صالحة. وكانت ساعة يأس أحيت في نفوسنا الماضي الذي ظننا أنا نسيناه فتلفتنا بالقلوب إلى دمشق فإذا نحن منها على مسيرة سبع ليال بالسيارة، ولكن ما إليها من سبيل، فجعل كل منا يذكر أهله وأحبابه، ويتخيل ماذا يحل بهم من بعده، ويتصور بردي يجري زاخراً دفاعاً ونحن نكاد نموت عطشاً لأن الماء الذي معنا قد شح ونفد إلا الأقل منه احتسبه الأقوياء منا، وبلغت المسألة مبلغ التنازع على الحياة، ولم يبق إلا الأثرة الشنيعة أو الإيثار البالغ. وحار الدليل وأظهر حيرته حين لم يعد مكان لإخفائها. وكان يدع السيارة في قعر