فصاح وخر مغشيا عليه ولما أفاق ورجع إلى بيته أخذ يطيل الفكر فيما سمع، وترن في أذنيه قول الجارية (حياتك ذنب لا يقاس به ذنب) فبدأ يتخلف عن مجلسه ويطيل وحدته ويتأمل صنائع الإله وما أبدع في الكون وبذلك انتقل إلى مرحلة التصوف
والميثاق الذي ورد في كتاب الله جل شأنه والذي بمقتضاه أقسمت الأرواح أن تؤمن به قبل أن تحل في أبدانها وقبل أن يخلق الله هذه الأجسام، وهو مذهب الجنيد الذي اعتنقه ونادى به. وصاحب هذا المذهب يؤمن بوجود حقيقة الإنسان في الوقت الذي تعهدت فيه الأرواح بالإيمان لخالقها، وان البدن باطل لا وزن له ولا يساوي أية قيمة؛ وأما الحقيقة الإنسانية فهي تنحصر في الجوهر الروحاني الذي لا تشوبه شوائب المادية، وفي هذا اليوم الذي تعهدت فيه الأرواح لخالقها بالإيمان تفرر مصير الإنسانية وتحدد نهائيا. ومن هذا اليوم اختار الله السعداء من خلقه فاصطفاهم لحضرته فانكشفت لهم الألوهية في ذلك الوجود النقي الصافي الذي كان يحتويهم قبل عالم الأشباح، ثم بعد أن صاروا في عالم الأشباح لازال الله يجذبهم إلى العودة إليه من ثنايا هذه الحياة. ولهذه العودة درجات كثيرة مختلفة ومتعددة، ولكن أعلى هذه الدرجات وأولاها المعرفة، وأول مبادئها التوحيد، ثم تحديد الوحدانية الإلهية، ولا يكون هذا التحديد حقيقيا إلا بالتنزيه وهو جحود الكيف والحيف، ولا يحظى بهذه المنزلة إلا من شاء الله له ذلك عن طريق السكر التنسكي وهو نوعمن الجنون الفجائي يمن الله به على من اصطفاه فيصبح بواسطته في حال يصدر فيها عن القول والفعل دون أن يكون مسئولا عما يقول أو يفعل، ومن يمنحهم الله المعرفة، ويتجل عليهم بهذه المنزلة خصهم الله بقربه واصطفاهم لحضرته (هؤلاء هم الذين اعتزل الله بهم).
والمعرفة عنده معرفتان: معرفة حق، وهي إثبات وحدانية الله تعالى على ما أبرز من الصفات وما أظهر من آثار قدرته في الأنفس وفي الآفاق. وهذه المعرفة هي معرفة المؤمنين عامة. ومعرفة حقيقة: وهي مشاهدة السر من عظمة الله وتعظيم حقه وإجلال قدره وتنزيه ربوبيته عن الإحاطة، لأن الصمد لا تدرك حقائق نعوته وصفاته؛ فالحق سبحانه وتعالى يشاهد من عظمته. وفي هذا يقول:(المعرفة تردد السر بين تعظيم الحق عن الإحاطة وإجلاله عن الدرك). أما من اكتفى بمظاهر الحياة وما يشاهد في قلبه من صور، واعتقد أنه بهذا وصل إلى المعرفة فقد خانه التوفيق وجانبه الصواب والجنيد يقول: