(المعرفة أن تعلم ما تصور في قلبك فالحق بخلافه). لكنه وجود يتردد في الكون ويحكم تدبيره، لا تتهيأ العبارة عنه، ولا تؤدي الكلماتالمقصود منه. فالإنسان مسبوق، والمسبوق غير محيط بالسابق، فصاحب الحال قائم موجود عيانا وشخصا وصفة ونعتا.
والمعرفة تجعل العارف الذي تعلق بحقيقة الخالق لا يشهد حاله، بل يشهد سابق علم الحق فيه وأن نهايته صائرة إليه ومصيره إلى ما سبق له، ومن لم ينعم الله عليه بشهود ما سبق له من الله تحير، لأنه لا يدري ما علم الحق فيه ولا ما جرى القلم به، ومن عرف ما سبق له من القسمة لا يتقدم ولا يتأخر وتعطل عن الطلب، فقد عرف أن الله متولي أمره. ومن عرف أن الله متولي أمره تذلل له في أحكامه وأقضيته وسار في طريقه مستقيما متذللا. وفي هذا يقول (المعرفة شهود الخاطر بعواقب المصير، وأن لا يتصرف العارف بسر ولا تقصير). والعارف هو من لبس لكل حال لبوسها فيكون في كل حال بما هو أولى وما يناسبه فلا يرى بحال واحدة، لأن أمره ليس بيده ومصرفه غيره. ولما سئل عن صفة العارف قال:(لون الماء لون الإناء) وكثيرا ما كان يحكي في هذا المقام ما حدث لأبي بن كعب. قيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب (إن الله أمرني أن أقرأ عليك) فقال أبي: أ، ذكرت هنالك يا رسول الله! قال نعم: فبكى ابي ولم ير حالا يقابله بها، ولا شكرا يوازي نعمه، ولا ذكرا يقوم بما يستحقه المولى جل شأنه، فانقطع فبكى فقال له النبي عليه السلام (عرفت فالزم).
وذكر الله هو سبيل الوصول إلى الحضرة الربانية، والهيام به هو تصريح المرور إلى مجلس الأنس الأسمى، ولا يكون حقيقة من القلب إلا إذا استروح الذاكر حب الله وعاين الحق وثمل من كأس الحبيب وسكر بخمره. وهو قوت القلوب الذي تحيا به، وزاد الأرواح التي تتزود به، وأنس النفوس الذي يذهب عنها الوحشة ويزيل همها وكربها، والماء الذي يطفئ ظمأ الفؤاد ويخفف من حدة اشتعاله، وهو الدواء الشافي من العلل والأسقام، والبلسم المطهر لجراحات القلوب، وهو حبل الوصل بين الذاكر والمذكور، وسبيل القرب بين المحب والمحبوب، وكلما ازداد الذاكر في ذكر محبوبه استغراقا وهياما، ازداد الحبيب المذكور إلى ذاكره قربا وإلى لقياه اشتياقا. والذكر عنده نوعان: ذكر اللسان وهو أيسر النوعين وأقلهما مشقة وأخفهما عناء، وهو ملك للجميع وفي هذا يقول: