للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ذكرتك لا أني نسيتك لمحة ... وأيسر ما في الذكر ذكر لساني

فإذا وافق القلب في الذكر اللسان، نسي الذاكر في جنب الله كل شيء وهان عليه كل شيء وحقر في نظره متاع الدنيا وزينتها، وطرح مباهجها وراءه ظهريا، وتعلق بذكر محبوبه وهام به وغرق في بحر ملكوته القدسي. ومن كانت هذه حاله حفظ الله عليه كل شيء وعوضه بلذة ذكره عن كل شيء، ومن وصل إلى هذه الدرجة فهو الذي من الله عليه بعمة الوصل والتعرف؛ لأن من بلغ هذا المقام فقد عرف الله حق معرفته؛ ففي الأثر الإلهي: (إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه) وفي هذا يقول الجنيد (من ذكر الله عن غير مشاهدة فهو مفتري)

والذكر بالقلب هو أصل المحبة وعنوان التقرب لأنه يغزو قلب الذاكر وفي هذا يقول: (المحبة ميل القلوب) فالذاكر إذا أحب من يذكره مال إليه قلبه وانجذب إلى حضرته وفني في ذاته، فيكون حبه من غير تكلف، وهيامه مصدق وإخلاص. وما دام الذاكر قد مال قلبه إلى من يذكره واتصلت به محبته فإنه يرى اللذة والسعادة في الخضوع له والتذلل في حضرته وإطالة الوقوف ببابه طلبا للمثول بين يديه، والطاعة فيما يأمره به من أعمال، ويبتعد عما بنهاه عنه، ويرضى كل الرضا بحكمه فلا تثور نفسه ولا يضجر قلبه إذا نزل به مكروه أو حاقت به نازلة، يفعل كل ذلك ليحظى بالقرب وينال الرضا من المحبوب، فإن حظي بمراده وبلغ مأموله فقد طابت له الحياة وصفا عيشه؛ لأن المحب يتلذذ بكل ما يرد عليه من المحبوب من خير أو شر. وفي هذا يقول: (المحبة لذة والحق لا يتلذذ به لأن مواضع الحقيقة دهش واستبقاء وحيرة).

وإذا ملك الحب شغاف القلوب، وتكشف الحال بين الحب والمحبوب، وأصبحت المحبة تعظيما يحل الأسرار، وقربا يحيي موات القلوب، فإذا سمع المحب ذكر محبوبه اضطربت منه الجوارح طر بالذكر محبوبه فيصبح في حال من الوجد والهيام، والمحب غذاء كان ضعيفا إيمانه ضعف وجده، وضعف الوجد ينتج حالا من التواجد وهو ظهور علامات الهيام على المحب، وأما القوي الإيمان الراسخ القدم الصافي القلب الصادق الحب، فيكون وجده من السكر لا يفيق منها أبدا، وهذه الحال حال العارفين. ولا شك أنها خير حال من الأولى لأن كتمان الحب دليل على قدرة المحب وصبره على تحمل ما يلقى في سبيل حبه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>