الحمد لله! الحمد لله! لقد وجدت البرج المنشود، ولكن أين؟ لم أجده في بابل، وإنما وجدته في قلبي، وأين بابل من قلبي؟ القلب الذي أجهله أشد الجهل، وإن كنت سمعت أنه يقيم بين ضلوعي؛ والجيران قد يجهل بعضهم أسرارا بعض. وسنعرف يوماً أن العين ليست ترجمان القلب في جميع الأحيان؛ فلكل من القلب والعين وجود مستقل تمام الاستقلال، وإلا فكيف يقع في كل يوم أن تعد العيون بنعيم لا تسمح به القلوب؟
الجاهل هو الذي يتوهم أن العين ترجمان القلب
وقد جهلت يوماً فتوهمت أني اعرف سرائر قلبي، ثم عرفت أني واهم فيما توهمت، فما كان قلبي إلا غابة تعيش فيها ألوف الألوف من أنواع الشجر والنبات والطير والحيوان والأفاعي والصلال
وآية ذلك أني أعرف أسباب أفراحي وأتراحي إلا في أندر الأحايين؛ ثم يغم على الأمر فلا ادري مصدر سعادتي أو منبع شقائي، فافزع إلى ما يفزع إليه الصوفية عند البسط والقبض بلا وعي ولا أدراك. ولو وعيت وأدركت لنفذ سهمي في جذب السعادة أو دفع الشقاء
وأنا مع ذلك اهتديت إلى ما لم يهتد إليه ديكارت؛ فديكارت فطن إلى أنه يفكر فعرف أنه يفكر فعرف أنه موجود، وأنا فطنت إلى أن برج بابل أقيمت صروحه فوق سواد قلبي، فاستشعرت الخوف من ظلمات قلبي، وهي ظلمات يعجز عن تبديدها نور القمر وضياء الشمس، لأنها ألفاف من الشر المدفون في أصول تلك الغابة الشجراء
وما أشد خوفي من قلبي، وهو قلبي!
وآه ثم آه من الجبن عن مكاشفة العدو الذي يلبس ثوب الصديق!؟
كان يطيب للشعراء أن يقولوا إنهم يعيشون بلا قلوب ليبرروا عجزهم عن استبدال حبيب بحبيب.
وأقول: إني يئست من الأمل في العيش بلا قلب، وأين المفر من قلبي وهو قطار من أحابيل وعقابيل شد بعضها إلى بعض بسلاسل مصنوعة من أوهامي وظنوني وأنا رجل مخلوق من أوهام وظنون، وإن شهد خوفي من القلب بأني على شيء من العقل، والعقل أضعف حلية يتحلى بها الآدميون، فلو عاش بنو آدم بعقولهم في جميع الشؤون لكان مصيرهم مصير الأنعام، فلم يزينوا الوجود بروائع الآداب وغرائب الفنون