للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

القديمة، وناقشناها أخيراً مبينين ما إذا كانت تلتئم مع التعاليم الإسلامية وتقتصر شقة الخلاف بين الفلسفة والدين؛ ونرى اليوم واجباً علينا أن نبين ما لهذه النظرية من أثر فيمن جاء بعد الفارابي من فلاسفة ومفكرين، وسنتتبع تاريخها في المدارس الإسلامية على اختلافها محاولين أن نبين كذلك مقدار نفوذها لدى اليهود والمسيحيين في القرون الوسطى والتاريخ الحديث.

وقد يكون أول سؤال يسأله الباحث هو: هل أخذ فلاسفة الإسلام الآخرون بهذه النظرية؟ والجواب على هذا أن ابن سينا أولاً اعتنقها في إخلاص، وعرضها على صورة تشبه تمام الشبه ما قال به الفارابي من قبل، وقد خلف لنا رسالة عنوانها: (في إثبات النبوات وتأويل رموزهم وأمثالهم)، وفيها يفسر النبوة تفسيراً نفسياً سيكلوجياً، ويؤول بعض النصوص الدينية تأويلاً يتفق مع نظرياته الفلسفية. ويبدأ كالفارابي، فيوضح الأحلام توضيحاً عليماً؛ فإذا ما حل مشكلتها جاوزها إلى موضوع النبوة. وفي رأيه أن التجربة والبرهان يشهدان بأن النفس الإنسانية تستطيع الوقوف على المجهول أثناء النوم؛ فليس ببعيد عليها أن تستكشفه في حال اليقظة. فأما التجربة والسماع فيقرران أن أشخاصاً كثيرين تنبئوا بالمستقبل بواسطة أحلامهم. وأما عقلاً فنحن نسلم بأن الأحداث الماضية والحاضرة والمستقبلة مثبتة في العالم العلوي ومقيدة في لوح محفوظ، فإذا استطاعت النفوس البشرية الصعود إلى هذا العالم والوقوف على هذا اللوح عرفت ما فيه وتنبأت بالغيب، وهناك أشخاص يدركون هذا أثناء النوم عن طريق مخيلتهم فيحلمون بأشياء كأنها حقائق ملموسة، وآخرون عظمت نفوسهم وقويت مخيلتهم، فأدركوا ما في عالم الغيب في حال اليقظة كما يدركونه أثناء النوم. وهؤلاء هم الأنبياء الواصلون إلى مرتبة النور والعرفان. يقول ابن سينا (التجربة والقياس متطابقان على أن للنفس الإنسانية أن تنال من الغيب نيلاً ما في حال المنام. فلا مانع من أن يقع مثل ذلك النيل في حال اليقظة إلا ما كان إلى زواله سبيل ولارتفاعه إمكان. إما التجربة فالتسامع والتعارف يشهدان به، وليس أحد من الناس إلا وقد جرب ذلك في نفسه تجارب ألهمته التصديق، اللهم إلا أن يكون أحدهم فاسد المزاج نائم قوي التخيل والتذكر. وأما القياس فاستبصر فيه من تنبيهات:

تنبيه: قد علمت فيما سلف إن الجزئيات منقوشة في العالم العقلي نقشاً على وجه كلي، ثم قد

<<  <  ج:
ص:  >  >>