خادمة نَصف في لباس أسود، فهمست في أذنها باسم ذلك الكاتب العظيم، فقادتني إلى ممر طويل ينبعث فيه نور ضئيل شاحب حتى وصلت إلى غرفة نظيفة قد أغلقت نوافذها وتدلت مصابيح الكهرباء في وسطها، فلمحت في أحد جوانبها مكتباً صغيراً عليه دفتر كبير شبيه بدفاتر المحامين وقد كسيت الجدران بالخرائط والصور.
شعرت بخيبة الأمل عندما وقع نظري على تلك الغرفة العادية التي لم تكن تختلف عن سائر الغرف ولاسيما وقد كنت أتوقع صومعة لقديس أو عريناً لأسد لا مكتب أحد المحامين؛ فأخذت أسائل نفسي: أحقا هذا بيته وتلك غرفته، أم أنا في بيت أحد أقربائه؟ ولكني لم أطل التفكير في هذا إذ رأيت أمامي رجلاً ضئيلاً قد أربى على الخمسين يحييني بلغة فرنسية صحيحة، فارتعت لمرآه. أيعقل أن يكون رجل أحلامي وأماني هذا الرجل الضئيل الذي يرمقني بعينين صغيرتين وتنفرج شفتاه عن ابتسامه هي أقرب إلى ابتسامات البله والسذج؟ أيعقل أن يكون هذا الرجل الذي يرتدي ثوباً أسود ويضع يديه في جيبه كما يصنع ضابط الاستيداع أو موظف المعاش؟ ذلك الذي جعل قلبي يخفق بروعة آثاره وقوة أسلوبه؟ وهل يمكن أن تكون تلك الأفكار العظيمة التي حيرتني وجعلتني اقطع الليالي ساهراً قد نبعت من ذلك الرأس الأصلع الصغير؟ لم اكن لأصدق هذا، بل كنت كلما أنعمت النظر فيه ازددت دهشة وعجباً، حتى لم أستطع أن أخفي دهشتي فقلت. أأنت الكاتب الذي أبحث عنه والشاعر الذي كتب (نفسي) و (الله)(ومشاكل نصف الليل)؟ فأجابني في هدوء وابتسام: نعم، وكأنه لم يشعر أنني أهنته بسؤالي هذا فدعاني إلى الجلوس وسألني حاجتي.
لم أكن أعرف مكاني، ولم أكن أستطيع التفكير في شيء أقوله، فلاحظ علي بعض هذا الارتباك فدنا مني متلطفاً وقال: أراك أحد المعجبين الأجانب الذين يأتون لرؤيتي. إن هذا أمر يسير، فأني أستطيع أن أقوم لك بما تريد. ثم أسرع إلى مكتبه وأخرج ورقة ومجموعة من الصور وعاد ثانية يستأنف حديثه: (هاك بعض تاريخ حياتي مدوناً بالفرنسية، وفهرسا كاملا لجميع مؤلفاتي. أي صورة تعجبك؛ إنني أظن أن أحسن صوري ما كان جانبيا، ولكن لك الاختيار. في أي صحيفة ستنشر هذا المقال؟ أفي صحيفة يومية أم في مجلة؟ فلما رأى أنني لم أجبه إلا بنظرة حائرة ساهمة عاد إلى مكتبه وأخرج كتابا صغيرا وقدمه إلي قائلا: هاك أشهر المقالات التي نشرتها كبرى الصحف عن مؤلفاتي، إنها مدبجة بأقلام كبار