في تأدية هذا الواجب كانت غريبة في بابها وبأسلوب مبتكر عجيب لم أشاهد مثله عند مئات بل آلاف أمثاله من المستجدين أولئك الذين يملئون الشوارع والأزقة ويتغنون في أساليب الشحاذة والاستجداء كان إذا سمع وقع أقدام تمر بجانبه قام متثاقلا من جلسته المؤلمة التي يتمثل فيها ظلم الإنسان لأخيه الإنسان قام وهو يردد جملتين بلغة إنكليزية ركيكة مؤداهما (أنا فقير)(اعطني درهماً).
كانت هذه طريقته في الاستجداء وطلب المال وكثيراً ما تندربه الصحاب والمارة وأذاقوه من نطاتهم ما يبعث الألم إلى نفسه والعذاب لروحه وكثيراً ما نهره جفاتهم بطريقة تستنزل الدموع من عينيه البيضاوين لأنه يستجدي بلغة الإنكليز لغة الأجانب لغة المستعمرين والمسكين يظن أن استجداءه بهذه اللغة يجلب له عطف المارة ويستدر القروش من جيوبهم ولكنه لا يعلم بأن استجداءه بهذه اللغة يثير فيهم كوامن الحقد ويذكرهم بظلم طال أمده وقيود صدأ حديدها. هو لا يدري أن هذه اللغة تذكرهم بالمذكرات التي كتبها السير هنري مكماهون والتي تعهد بها للعرب ما تعهد ولكنه وقومه لم يبروا بوعودهم ونكثوا بعهودهم وصوروا لنا أبشع صورة من صور أطماعهم. هو لا يدري أن أصحاب هذه اللغة هم الذين وقعوا معاهدة سايكس بيكو تلك الوثيقة المشينة وليدة الأطماع والتي رافقها الريبة بل كانت مثالا بارزاً للختل والخداع والغدر. هو لا يدري أن هذه اللغة تذكرهم بوعد بلفور المشئوم ذلك الوعد الجائر الذي عبد الطريق للصهيونية لكي تغزو فلسطين العزيزة، هو لا يدري بكل ذلك بل حتى ولا يدري بأن هناك شعباً على ضفاف النيل يئن من ظلم أصحاب هذه اللغة ويعمل ليل نهار للتخلص من تدخلهم في شؤونه وفرض سيطرتهم عليه.
قلت: تعالى يا صغيري فلي معك حديث قصير. قال: وهل أنا ممن يحذقون الأحاديث يا سيدي ألا أعطيتني قرشاً فأنا فقير؟ قلت: من علمك هذه اللغة الإنكليزية فكأنك تحسنها؟
قال: تعلمتها منهم أنفسهم عندما كانت جنودهم تحط رحالها بالقرب من دارنا ليستريحوا قليلا ثم يستقلوا القطار إلى حيث لا أعلم. . .
قلت وهل هم أنفسهم قالوا لك بأنك فقير؟
قال: هم علموني كلمة فقير ولكني أعلم بأني فقير وفقير حقاً ولو لم أكن فقيراً لم طلبت منك ومن غيرك القرش أو القرشين كي أسد بهما رمقي ورمق أخوتي ثم سكت سكوتاً