والتعمق في درسها وتمحيصها لاستجلاء كنوزها. ثم التمرن على أشغال الذهن ومواصلة التفكير لبعث ملكة الاستنباط الراقدة في حنايا أدمغتنا البكر، وهذا كله في متناول أيدينا. فجامعاتنا ومدارسنا ومكتباتنا كلها تزخر بمختلف المعارف الإنسانية، ينهل منها الطالب ما يشاء، ويثقف نفسه ما شاء لها من التثقيف.
ولكن هل من السهل إجهاد الذهن لاستخراج ما فيه من الدرر واللآلئ؟ إنه لعمري إجهاد عنيف لا يضاهيه إجهاد الغواص لاستخراج لآلئ البحر، يتطلب علماً وجلداً وخبرة في الحياة، ويستدعي جهداً خارقاً في التفكير، ورهفاً دقيقاً في الملاحظة، وإنعاماً خالصاً في الروية، تتعاون كلها على بعث اليقظة في الحواشي والوعي في البصيرة. والحواشي المستيقظة والبصيرة الواعية مصراعا الدماغ، لا ينفذ إلى دخائله دونهما، ولا تستخرج درره الكامنة في أغواره إلا بهما.
فلا شئ في هذا الكون يجني عفو الخاطر، بل بشق النفس وإجهاد الجسم والعقل
فالعلم الذي نستوعبه بحول، هو نتاج كفاح الأجيال. والكتاب الذي نتصفحه بساعة هو نتيجة جهاد الأعوام. والصناعات التي نتمتع بأدواتها المدهشة، قد صرف مبدعوها العمر كله لإيجادها. والأدوية الناجعة التي نفزع إليها عند الحاجة، ونتناولها ساعة نشاء، قد بذل في سبيل تحضيرها واكتشافها دماء القلب وعصارة الروح
فارتقاء الإنسان إذاً مصدره الفكر. ولولا أعمال الفكر الشاقة، لما كانت الحضارة ومستحدثاتها ولا العلم ونواميسه. فكل جليل وجميل في الكون تمخض فكراً في الذهن قبل أن تجسم كتاباً، أو تحول آلة أو تقمص فناً
فمن شاء الخلق والإبداع فليفكر. وألا يمل من التفكير. فمن لا يزرع لا يحصد، ومن لا يواصل التفكير لا يخلق ولا يبدع
إن الجسم لا تقوى عضلاته بلا مواصلة العمل والرياضة. . . هكذا الدماغ وهو خير ما في الجسم من عضل وخلايا لا تتفتح مواهبه الخالقة، وتشتد قواه المبدعة إلا بقوة المران والتفكير المستمر. ولا يغرب عن البال أن الثقة بالنفس هي أساس الفكر، فمن وثق بنفسه فكر بدماغه دون أن يتوكأ على أدمغة الآخرين. وما الإحجام والخمول والتواكل سوى قيود مرهقة للنفس. يتحتم علينا أن نتحرر منها ليتسع أفق تفكيرنا ونتاج عقولنا