به الخيال مذهباً آخر. وهل يتجه في مثل هذا الحال إلى غير اللصوص خيالُ من امتلأت صناديقه بالذهب وفاضت بالأصفر الرنان؟ إن صاحبنا كان على ثروة لا بأس بها في مثل ذلك العهد. فقد كان صاحب مطحنتين، وكان لا يتخلّى عن صاع القمح بأقل من خمسة مجيديات، ليس من طمع أو جمود عاطفة كما كان يقول، بل لأنه حلف حلفة لا يبيع الصاع بأقل من هذا المقدار!! فكانت تجيئه المرأة وبيدها الخمسة مجيديات تنقص بضعة قروش تروم بها دفع أجور الطحين في مطحنته، فيبادرها بهز الرأس مشيراً في أسف إلى يمينه التي أقسم والتي ستجرُّه إن هو حنث بها إلى الجحيم!
أيقن صاحبنا إذن أن لصاً شديداً جاء يقتحم عليه الدار عنوة، وإذن فليتحصن ما تيسر له أن يتحصن، وليتخذ من العدَّة كل ما يستطيع من عدة، وليضع من الصناديق وراء الباب ما يضع، وليأخذ بيده مسدسه محشوا، وليوسط بينه وبين الباب أمه العجوز يتترَّس بها، ففي جسمها الدسم الغني بالشحم واللحم، وفي قامتها العريضة المديدة وقاء له إذا هم هذا الواغل بشيء من خلف الباب، وتشجع صاحبنا المحاصَر ونادى يصوت كالحشرجة: مَن الطارق؟! من الطارق؟! فجاءه الجواب زيادة في الطرق ولجاجة في النداء والطلب. وتكرر السؤال الذي جعله الرعب على وتيرة واحدة، وتكرر الجواب الذي جعله الاصرار على وتيرة واحدة أيضاً.
وقال كبيرنا: ليس هو باللص الذي يخشى. وعهدنا باللصوص لا يقتحمون المنازل على السكان، بل هم يتسلّلون إليها في غفوة من الناس وغفلة من الحراس. وهو كذلك ليس بالسائل والعهد بالمتسولين يقرعون الأبواب قرعاً خفيفاً في أبصار غضيضة، ورؤوس منكسة، وأصوات خفيضة لا تكاد تبين، إلا الأغرار منهم الذين لم يجربوا ولم يعرفوا من طباع البشر ما يعرف المتسولون المجربون.
ولم نشأ أن نطيل الحدس والتخمين، فتوجه كبيرنا إلى الطارق وسأله في جفاء ماذا يريد في ذلك الهزيع من الليل، ولم ذلك القرع العنيف والنداء الصاخب؛ فأجاب في نظر شارد وفي غير أناة:
لقد مضى علي ثلاثة أيام لم أطعم طعاماً، فأوشكت أن أهلك وقد طرقت فيمن طرقت حياً من أحياء الأعراب المخيمين في ضاحية البلد الجنوبية على بعد غلوتين أو ثلاث، فوصفوا