لي هذه الدار من البلدة، وقالوا انك واجد هناك قوتاً ومأوى ليلتك هذه، وعساي لم أخطئ الاستهداء.
وهم كبيرنا ليدخله بعد الذي عرف من أمره دون أن يزيد في سؤاله، فينال بعض الطعام ويبيت ليلته. غير انه حدث في هذه اللحظة ما راعانا جميعاً: ذلك أن صاحبنا المحاصر، بعد أن أنس إلى أصواتنا ولهجة الحديث الذي دار بيننا، وأيقن أن الأمر من الخطورة على غير ما توهم وجسم له الخيال الزائغ. ففتح الباب بعنف ظاهر، والمسدس يلمع في قبضة يده والعصا في قبضة يده الأخرى، ولم يتريث لنوضح له جلية الأمر، بل أقبل على المسكين بهراوته الثقيلة وانهال يكيل له بلا حساب حتى كاد يقضي عليه بين أيدينا، لولا أن لطف المولى وتداركه برحمته فسقط مما ناله بين أيدينا التي جعلنا منها شبه حاجز بين عنف الرجل المهاجم وضعف هذا الطارق. ولم يستطع صاحبنا معها أن يستعمل العصا فاندفع يكيل له بقبضة يده حيثما وجد سبيلاً إلى ذلك من بين أيدينا. وأدرك كبيرنا أي شيء يصير إليه الرجل إذا لم يحل حيلولة تامة بينه وبين مهاجمه المحنق، ولم تسعفه سنه من أول الأمر في تخليص الرجل، فلجأ أخيراً إلى أسلوب فيه شيء من القسوة، ولكنه الأسلوب الذي لم يكن بالإمكان ارتجال ما يفضله في هذا الظرف الحرج. فقد أمسك بتلابيب الرجل وجره إلى حيث استطاع أن يوقيه من لكمات مهاجمه الذي أراد أن يثبت لنا بعد ذلك الموقف من الجبن أنه على شيء كثير من البأس والأقدام
وبعد أن هدأ روع الرجل وتناول بعض الطعام أقبلنا نلومه مشفقين، وسألناه ما شأنه ولِمَ لم يختر له غير ذلك الأسلوب الغريب للاستجداء واستدرار العطف. فأجاب عن أسئلتنا جميعاً بقوله:
إنني جندي من فلول الجيش التركي في فلسطين، طوح بي السير إلى هذه البلاد بعد أن نال مني الجوع والتعب أقصى ما ينالاه من حي. فقد كنت لقلة خبرتي بالطرق أسير من البلد الواحد أبغي بلداً آخر فانتهى غالباً حيث أبتدئ، وأبتدئ حيث أنتهي. وكنت حيناً أصيب طعاماً أو شيئاً شبيهاً بالطعام وأحياناً أمضي ساغباً أياماً لا يخالط الماء في جوفي شيء من الزاد، وآخر عهدي بالطعام - كما أخبرتكم - كان منذ ثلاثة أيام. فقد استجديت واستجديت، مصطنعاً كل أساليب الخشوع وأنواع الضراعة، ولكن في غير طائل. وأخيراً