للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وصلت ذلك الفريق من الأعراب فوصفوا لي هذه الدار، فآليت لا أصبر زيادة عما صبرت فإما شبع يرد إلي الحياة، أو موت أرتاح معه من ذلة السؤال وآلام الجوع. وعوّلت على أمر. قلت أبادر أصحاب الدار بالعنف والصياح: فان كانت فيهم بقية من رحمة وآثار من إنسانية لم يمنعهم صياحي إذا ما شاهدوا ما أنا فيه، من الرثاء لحالي والجود على بشيء. وان كانت الأخرى وكانوا كبقية الناس نالني منهم ما أرجو معه أن أضع حداً لهذه الحياة المثقلة. وحياة الجندي - كما قد تعلمون - لا تساوي في هذه الأيام شيئاً، ولا تعسر على أحد، ولولاكم - جزيتم خيراً على كل حال - لكانت هذه آخر ليالي من الشقاء.

ولحظت عند هذا الحد من حديث الرجل الدمع يجول في عينيه بين متحير ومتحدر، يهبط به الحزن لحظة، وتكفكفه الرجولة أخرى. وكأنه آنس مني عطفاً صادقا عليه وإشفاقا على ما صار إليه، فأقبل علي يحدثني ويبثني شكواه. وأغلب اليقين أنه لم يكن يعتقد أنني مدرك إلى أي الأغوار والأعماق النفسية تنحدر آلامه وأشجانه. إلا أن ذلك لم يكن يمانعه قط عن الحديث. والمرء إذا زخرت نفسه بالألم وأترعها الحزن تحدث إلى كل شيء، تحدث إلى نفسه، تحدث إلى سواه، تحدث إلى الأطفال، تحدث إلى الحيوان، تحدث إلى الجماد، تحدث إلى لا شيء، فكأن المرء في ذلك الإناء يمتلئ فيفيض بالزائد على ما حوله.

كشف الجندي عن صدره وأراني أثر جرحين أو ثلاثة، وكشف عن ساقه وأراني مثل وشرع يقول: أترى يا ولدي؟ هذا بعض نصيبنا من هذه الحرب. هذا بعض ما أصابني. ولكنني كنت كلما أصبت أتغلب على آلامي وأتحامل على نفسي فألوذ بربوة أو اهبط حفرة تقيني زيادة الأذى إلى أن ينصرف العدو أو يزول الخطر، فأقوم إذا كنت قادراً، أو أحمل إلى حيث أعالج، لأعود إلى القتال أمضي عزيمة وأشد بأساً. ولكن الزمن - يا بني - والجوع والخذلان، قد ذهبت بالكثير من قوانا وصبرنا، فعدنا لا يهمنا أكنا في الطليعة أم في المؤخرة. وأخيراً رأيتني على غير إرادة مني أتخلف عن الجيش وأهيم على وجهي في غير قصد أو اتجاه، إلى أن انتهى بي المطاف إلى هذا البلد ثم هذه الدار، فنالني ما نالني على يدي ذلك العلج الذي كاد يميتني بهراوته. . . أهذا يا ولدي جزاء هذه الجراح؟ أهذه خاتمة الجندي الذي يدفع عنكم عدوان الأعداء بدمه وحياته؟! إنني من غدي مسلم نفسي إلى أقرب سلطة عسكرية تفعل بي ما تشاء. ذلك خير لي وأبقى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>