هذا الحكم، وقضى بنو هاشم والمطلب في الشعب نحو ثلاث سنين قاسوا فيها جهداً جاهداً حتى لقد كان يسمع صوت صغارهم من وراء الشعب وهم يتضورون جوعاً. وأخيراً قام في قريش من عطفته عليهم عاطفة الرحم والقرابة فسعى في إخراجهم من الشعب فأخرجوا
على أن الرسول لم ينعم بتلك الحرية التي سيقت إليه طويلاً. ففي السنة العاشرة للنبوة أصيب بفقد عمه أبي طالب وزوجه خديجة، فخلا الميدان من النصير الذائد، وخلا البيت من الحبيب المؤنس. واصبح محمد وجهاً لوجه أمام عدون حنق عليه كان يترقب فيه الفرصة، فلما امكنت استغلها استغلالا. فجعل يأخذ عليه المذاهب ويعزى به السفهاء يتعمدونه بالأذى والهوان
عند ذلك أخذ الرسول يفكر فيما كان قد أشار به على أصحبه منذ سنين عندما اشتد تحامل قريش عليهم: أخذ يفكر هو أيضاً في الهجرة. لقد دلته تجارب سنوات عشر على أن دعوته توشك أن تذهب بمكة صرخة في واد ونفخة في رماد، وإذا ففيم المقام بواد غير ذي زرع حقيقة ومجازاً؟ فليهاجر! ذلك ما قر عليه رأيه. ولكن على ألا يتخطى حدود بلاد العرب فهو مبعوث إلى العرب أولا والى سائر الناس أخيراً. فليخرج إلى اقرب قرية عربية من مكة؛ إلى الطائف، لعل ثقيفاً تجيره حتى يبلغ رسالته. ولكن ثقيفاً لم تكن أبر به من قريش، فقد أعرضت عن سماع دعوته وضنت عليه بجوارها، ثم زادت فأغرت به سفهاءها، فما زالوا يتعقبونه حتى ألجأوه هو ومولاه زيد بن حارثة إلى حائط من حوائط ثقيف. وهنا - وقد خلا إلى نفسه وربه -. فاضت أشجانه واعتلجت في صدره همومه، فانبعث يناجي ربه (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس! يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالي؟ ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)
ثم نهض من مكانه يريد مكة فلم يدخلها إلا في جوار سيد من ساداتها هو المطعم بن عدي. وكف محمد مؤقتاً عن توجيه الدعوة إلى قريش واكتفى بعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج لعل قبيلة تصغي إليه فينتقل إليها ويبلغ دعوته في ظلها وسلطانها. فكانت