للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ونحن إذا تتبعنا مؤلفاته التاريخية، التي كتبها في مراحل عمره المختلفة، أدركنا على الفور تدرج تلك النزعة في نفسه تدرجاً أدى بها إلى تلك الخاتمة التي ذكرنا.

كانت باكورة مؤلفاته التاريخية (حياة شارل الثاني عشر) الذي كتبه ولم يزل يرسف في أغلال التقاليد، التي أملت عليه مثله الأعلى، فأخرج كتابه للناس آية في تمجيد شارل، وإكليلا من الزهر يتوج به هامة ذلك الملك، الذي سما به إلى مرتبة رفيعة لا يدانيها من البشر إلا الأقلون. وكل عبقريته انه نشر الدماء وبعثر الأشلاء!! وانه خاض في أوروبا من الشمال إلى الجنوب، فاحتواها في قبضته من تركيا إلى السويد!! ولكن نفس فولتير لم تضطرب فيها عاطفة واحدة نحو ذلك الشعب الذي نسج حول مليكه تلك العظمة الحربية بخيوط من أرواحه وما ملكت أيديه، كلا ولم يحسب حساباً لتلك الشعوب التي داسها شارل تحت أقدامه، وأذل أعناقها لتخلي أمامه الطريق!.

يسجل ذلك الكتاب أولى مراحل فولتير الفكرية، ولكنه لم يكد يفرغ من كتابه ويذيعه في الناس، حتى اتجه بسائره إلى دراسة العلوم الطبيعية والرياضية: إلى دراسة ما أكتشفه نيوتن وما أرتاه لوك. وهنا آمن بعظمة العقل الإنساني إيمانا لا تزعزعه الريب والشكوك، وما هي الا أن عاد إلى ميدان التاريخ يجول فيه ويصول، ويبحثه في ضوء إدراكه الجديد ولبه المأخوذ بجلال الإنسان. فأخذ يعالجه بأسلوب لم يعهده التاريخ من قبل، بعيد كل البعد عن الطريق التي انتهجها في كتابه عن شارل الثاني عشر.

بهذه النزعة الناشئة. وفي هذا الضوء الجديد، نشر مؤلفه المشهور عن لويس الرابع عشر، الذي أن قرأته فلن تتجاوز ورقات قليلة، حتى تلمس هذا الأسلوب التاريخي الجديد، وتدرك المدى البعيد الذي انتقلت إليه عقليته في كتابة التاريخ. فبينما هو يسرد عليك في كتابه الأول قصة واحد من الملوك، تراه يصور في كتابه الثاني عصراً بكل ما أحتوى من ضروب الحياة. بل تستطيع ألا تجشم نفسك مؤونة القراءة لتتبين هذا الفرق بين الكتابين، ويكفي أن تلقي نظرة عجلى على عنوانيهما لتدرك ما تناول وجهة نظره من تطور وانقلاب؛ فعنوان الكتاب الأول (تاريخ شارل الثاني عشر) وعنوان الثاني (عصر لويس الرابع عشر) في كتاب شارل أخذ يسرد في تفصيل وتطويل ما طرأ على حياة ذلك الملك من أحداث، وما كان يطبع شخصيته من ضروب المميزات والفضائل، أما في هذا الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>