الأخير، فقد تتبع الشعب في نزعاته وميوله وحركاته، وقد ذكر في مقدمته أنه. (لن يصف حياة رجل واحد، بل سيعني بأحوال الشعب جميعاً) فبينما تراه يلم إلماماً سريعاً بأخبار الحروب، تراه يذكر في إطناب نواحي الحياة الأخرى التي لم تحظ قبل فولتير بصفحة واحدة من صفحات التاريخ. فقد عقد فصلا للتجارة والحكومة الداخلية، وآخر للحالة المالية، وثالثاً لتاريخ العلوم، كما اختص الفنون الجميلة بفصول ثلاث. وعلى الرغم من أنه كان يعتقد ان النزاع الديني لا يستحق الا القليل، الا أنه أفسح لأخبار الكنيسة في عصر لويس الرابع عشر من كتابه مكاناً واسعاً، لأنه لم يشك في أنها لعبت دورا خطيراً في شؤون الحياة، التي أراد أن يصورها في مؤلفه هذا تصويرا دقيقاً.
ولكنا يجب أن نلاحظ أن هذا الكتاب، وإن يكن خطوة واسعة وانقلاباً خطيرا في دراسة التاريخ، الا انه لم يخل من شوائب الماضي إذ أطال فولتير (في غير ما موجب للتطويل) في تفصيل حياة لويس الرابع عشر نفسه، وما كان يتقلب فيه من ضروب اللهو والعبث والمجون، ثم حاول بعد ذلك أن يقيم الدليل على سمو مكانته وعظمة مجده، وأن يدفع حراب النقد التي كانت تصوب إلى أسمه من كل حدب وصوب.
كان ذلك الكتاب إذن وصلة التطور بين عهدين، لأنه ثار على القديم من ناحية، وتعلق بأسبابه من ناحية أخرى، ثم ما كادت تنطوي سنوات أربع، حتى طلع على العالم بسفره الجليل في أخلاق الشعوب، الذي يعتبر بحق أسمى ما أنتجه العقل الإنساني في القرن الثامن عشر.
لم يعن فولتير في هذا الكتاب كثيرا بدسائس البلاط، وتتابع الوزارات، وما أصاب الملوك من سعود ونحوس، ولكنه حاول أن يترسم آثار الإنسانية في سيرها وتقدمها مرحلة بعد مرحلة، فهو يقول فيه (أريد أن أكتب تاريخاً للمجتمع الإنساني، غير معني بما نشب فيه من حروب، وأن أبين في جلاء ووضوح كيف كان يعيش الأفراد في حياتهم العائلية الخاصة، وما هي الفنون المختلفة التي كانوا يعالجونها، ذلك لأن الموضوع الذي أنا بصدده، هو تاريخ العقل البشري، فلن أسرد الحوادث التافهة الحقيرة، ولن أعني بأخبار الأمراء والعظماء وما قام بينهم من ملوك فرنسا من قتال وعراك، ولكني سأدرس المراحل التي اجتازها الإنسان حتى انتقل من الهمجية إلى المدنية).