وهكذا ضرب فولتير مثلا أعلى للتاريخ كيف يكون، فاهتدى بهديه المؤرخون من بعده، وأخذوا يدرسون ما هو جدير بالدرس ويسقطون من حسابهم تلك التفصيلات الجافة المملة التي لا تتصل بالحياة الا بسبب واه ضئيل، والتي غصت بها مجلدات التاريخ من قبل.
لم يكن فولتير في تلك الروح الجديدة الا مرآة صافية ينعكس فيها ما تضطرب به نفوس القوم في القرن الثامن عشر، لذلك لم يكن هو الكاتب الوحيد الذي اختط لنفسه هذا النهج، بل عاصره منتسيكو وتيرجوا، اللذان نسجا على هذا المنوال في كتابة التاريخ.
وهكذا بدأ المؤرخون يحولون موضوع الدراسة من أشخاص الملوك والأمراء، إلى حياة الشعوب وما يرتبط بها من مصالح. فأخذوا ينقضون الآراء العتيقة البالية، ويبذرون في النفوس بذور القلق والاضطراب، ثم يحتقرون تلك الشخصيات، التي كانت تملأ عظمتها النفوس من قبل، والتي كانت أقرب إلى الآلهة منها إلى البشر.
وبذلك انقلب التاريخ معولا لهدم الملكية والأرستقراطية بعد أن كان أداة قوية للدعاية لسلطانهم. وأصبح قيثارة تنبعث منها نغمات الديمقراطية، وتقديس الإنسان، وتمجيد الأيدي العاملة؛ ثم أخذت تلك الألحان الجديدة تدوي أصداؤها في جنبات أوروبا عامة وفرنسا خاصة، حتى انتهت بالثورة الكبرى، التي ثلت العروش ودكت قوائم الأرستقراطية دكاً. ولعل ما حدا بفولتير إلى انتهاج هذا الأسلوب في كتابة التاريخ، هو ميله إلى التعميم في دراسته للأشياء. فهو لا يطمئن للبحث في الجزئيات، الا إذا كان ذلك على سبيل الاستشهاد وضرب الأمثلة التي تؤيد قاعدة عامة ومبدأ شاملا. لهذا تراه قد أقام التاريخ على أساس المراحل التي اجتازتها الإنسانية عامة في تطورها؛ أما الملوك ومن إليهم فهم بمثابة الجزئيات من تلك الكتابة الإنسانية؛ فلا يجوز دراستها لذاتها. ولم تقتصر تلك الروح التعميمية على كتابة التاريخ. بل اشتملت روايته أيضاً. فهو لم يحاول أن يصور فيها عواطف أفراد وأخلاق آحاد. إنما قصد إلى إبراز روح العصر الذي وقعت حوادث الرواية فيه.
كان من النتائج الطبيعية لهذه السبيل التي سلكها فولتير في كتابه التاريخ بناء على إكبار العقل الإنساني، وإجلال صفوف الشعب، التي هي نسيج الحياة الاجتماعية ومادتها، انه كان يزهو بحاضره إذا قاسه إلى الماضي، كما كان قوي الأيمان، مزدهر الأمل في مستقبل