للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الإنسانية، ما دامت جادة في طريقها لا تلوي على شيء، أو على الأصح لا يلويها عن تلك الجادة المستقيمة شيء. لذلك كان يضيق صدرا بمن عاصره من الكتاب الذين كانوا إذا أرسلوا بصرهم إلى المستقبل، ارتد حسيرا إليهم، وإذا جالوا الطرف في حاضرهم، قتلهم اليأس والقنوط؛ فكانوا يولون وجوههم إلى الوراء، يستعيدون صورة الماضي، التي كان يخيل إليهم أنها أقرب إلى الخير والكمال. والشعوب إذا دب فيها دبيب العجز والقعود، التمست في الماضي مثلها إلا على، أما إذا كانت فتية قوية، فهي تنظر إلى المستقبل يحدوها الأمل والرجاء. وليسمح لي القراء أن استطرد قليلا فأقول أنني لا اطمئن إلى هذه اللوعة التي يتردد انينها الحين بعد الحين، أسفاً وحسرة على (السلف الصالح) الذين غيبهم التاريخ في جوفه العميق، سواء أكان هذا السلف من المصريين القدماء أم من العرب. إنما يجب ان نذكر أولئك وهؤلاء كما يذكر الشاب القوي طفولته الضعيفة العاثرة، لا كما يذكر الشيخ المتهدم شبابه الفتي الضائع.

أعود فأقول أن فولتير قد ضاق صدراً بتلك الطائفة من الكتاب، التي كانت تنشد مثلها الأعلى في الحياة الماضية، فلم يتردد في أن يذيع في الناس صورة ذلك الماضي المظلم الغشوم، وأن يطلع أمته على حقيقة العصور الوسطى التي كانت تتخبط في ديجور الجهل والفوضى، حيث كانت أشنع الجرائم ترتكب بغير قصاص، وأشراف الإقطاع يبطشون بالناس بطش العزيز المقتدر بغير حساب؛ وبذلك عرف فولتير كيف يهدم تلك الفئة الضالة المضللة، وعرف كيف يمحو هذا الإعجاب السخيف المصطنع بالماضي البالي العتيق، كما عرف كيف يبسط للناس في الأمل الوارف الظلال؛ وكان المعول الذي اتخذه لتحطيم ذلك جميعا، هو سخره اللاذع وتهكمه القارص بهؤلاء الذين يعيشون في الحاضر بأجسادهم، وفي الماضي بنفوسهم وعقولهم (فليستمع الجامدون!!) وقد أخذ عليه بعض النقاد، انه إنما لجأ إلى السخر عندما أعوزه المنطق الذي يدعم به ما يقول! فأين إذن من هو أقوى من فولتير حجة وأسد منطقا؟! ولسنا نشك في أن من المنطق الا يناقش تلك الطائفة بالمنطق! وإلا فحدثني بربك كيف تجد الحجة العقلية سبيلها إلى نفوس هؤلاء، الذين نبذوا الجديد لأنه جديد، ومجدوا القديم لأنه قديم، مع أن العكس أولى وأقوم، لأنه أقرب إلى سنة الحياة؟!.

لله در فولتير في تلك السخرية التي صادفت أهلها وأصابت مرماها، فقد استطاع أن يسحق

<<  <  ج:
ص:  >  >>