للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

العنقود بعد ذهاب الحب منه يقول كان هنا وكان هنا؟

ألا فأعلم يا (ن) إن هذه الشيخوخة إنما هي غلبة روحانية الجسم على بشريته، فهذا طور من أطوار الحياة لا تدعه الحياة إلا وفيه لذته وسروره كما تصنع بسائر أطوارها؛ غير أن لذاته بين الروح والجمال، ومسراته بين العقل والطبيعة، وكل ما نقص من العمر وجب أن يكون زيادة في إدراك الروح وقوتها وشدتها ونورها. وقد قيل لبعض أهل هذا الشأنٍ وكان في مرض موته: كيف تجد العلة؟ فقالوا سلوا العلة عني كيف تجدني؟

وإنما تثقل الشيخوخة على صاحبها إذا هي انتكست فيه وكانت مراغمةً بينه وبين الحياة، فيطمع الشيخ فيما مضى ولا يزال يتعلق به ويتسخط على ذهابه ويتصنع له ويتكلف أسبابه، وقد نسى أن الحياة ردته طفلاً كالطفل أكبر سعادته في التوفيق بين نفسه وبين الأشياء الصغيرة البريئة، وأقوى لذته أن يتفق الجمال الذي في خياله والجمال الذي في الكون؛ وإنه لكما قلت أنت: لا يهنأ الشيخ إلا إذا عاش بأفكار جسمه الحاضر.

وما اصدق وأحكم هذا الحديث الشريف: (إن الله تعالى بعدله وقسطه جعل الرَّوحَ والفرحَ في الرضى واليقين، وجعل الهمَّ والحزنَ في الشك والسخط). فهذه هي قاعدة الحياة، لا تعاملك الحياة بما تملك من الدنيا، ولكن بما تملك من نفسك، وبذلك تكون السعادة في أشياء حقيقية ممكنة موجودة، بل تكون في كل ما أمكن وكل ما وجد. وإذا كان الرضى هو الاتفاق بين النفس وصاحبها، وكان اليقين هو الاتفاق بين النفس وخالقها، فقد أصبح قانون السعادة شيئاً معنوياً من فضيلة النفس وإيمانها وعقلها ومن الأسرار التي فيها، لا شيئاً مادياً من أعضائها ومتاعها ودنياها والأخيلة المتقلبة عليها.

فأطرق العجوز (ن) قليلاً ثم قال: (ربِّ إني وهَنَ العظمُ مني)، ألا ما أحكم هذه الآية! فو الله إن قرأت ولا قرأ الناس في تصوير الهرم الفاني أبدع منها ولا أدق ولا أوفى؛ ألا تحس أن قائلها يكاد يسقط من عجفٍ وهزال وإعياء، وأنه ليس قائماً في الحياة قيامه فيها من قبل، وأن تناقض هذه الحياة قد وقع في جسمه فأخلِّ به، وأن معاني التراب قد تعلقت بهذا الجسم تعمل فيه عملها، فأخذ يتفتَّت كأنما لمس القبر عظامه وهو حي، وأنه بهذا كله أوشك أن ينكسر انكسار العظم بلغ المبرد فيه أخر طبقاته؟

قال محدثنا: فقلت له: ترى لو أن نابغةً من نوابغ التصوير في زمننا هذا، تناول بفنه ذلك

<<  <  ج:
ص:  >  >>