المعنى العجيب فكتبه صورةً وألواناً، لا أحرفاً وكلمات، فكيف تراه كان يصنع؟
قال: كان يصنع هكذا: يرسم منظر الشتاء في سماءٍ تعلق سحابها كثيفاً متراكباً بعضه على بعض يخيل أن السماء تدنو من الأرض، وقد سدت السحب الآفاق وأظلم بها الجو ظلامه تحت النهار المغطى، واستطارت بينها وشائع من البرق، ثم يترك من الشمس جانب الأفق لمعةً كضوء الشمعة في فتق من فتوق السحاب؛ ثم يرسل في الصورة ريحاً باردةً هوجاء، يدل عليها انحناء الشجر وتقلب النبات، ثم يرسم رجالاً ونساءً يغلي الشباب فيهم غليانه من قوة وعافية، وحب وصبابة، وتغلي فيهم أفكار أخرى. . . وهم جميعاً في هيئة المسرعين إلى مرقص؛ وهم جميعاً من المجددين. . .
ثم يرسم يا بني في آخرهم (على بعدٍ منهم) عمك العجوز (ن)، يرسمه كما تراه، منحل القوة، منحني الصلب، مرعشاً متزلزلاً متضعضعاً؛ وقد زعزعته الريح، وضربه البرد، وخنقته السحب؛ وله وجه عليه ذبول الدنيا، ينبئ أن دمه قد وضع من جسمه في برادة، والكون كله من حوله ومن فوقه أسباب روماتزم. . .
ثم يصوره وقد وقف هناك ساهماً كئيباً، رافعاً رأسه ينظر إلى السماء.
قال المحدث: وضحكنا جميعاً ثم قال الأستاذ (م): لعمري إن هذه الحياة الآدمية كالآلة صاحبها مهندسها؛ فأن صلحت واستقامت فمن علمه بها وحياطته لها، وان فسدت واختلت فمن عبثه فيها وإهماله إياها، وليس على الطبيعة في ذلك سبيل لائمة.
والشيخ الضعيف ليس في هذه الدنيا إلا الصورة الهزلية لمفاسد شبابه وضعفه ولينه ودعته تظهرها الدنيا ليسخر من يسخر ويتعظ من يتعظ.
قال (ن): أكذلك هو يا أستاذ؟
قال الأستاذ. بل هي الصورة الجدية من هذه الحياة الباطلة التي دأبها ألا تصرح عن حقيقتها إلا في الآخر، فتظهرها الدنيا ليُجل الحقيقة من يجلها. وليس إلا بهذه الطريقة يعرف من خراب الصورة خراب المعنى.
قال العجوز (ن): آه من إجلال الشيخوخة واحترام الناس إياها! إنهم يرونه احتراماً للشيخ والشيخ لا يراه إلا تعزية.
وما الأشياخ الهرمي إلا جنازات قبل وقتها لا توحي إلى الناس شيئاً غير وحي الجنازة من