العرب هول الفجيعة، وأبى أن يجعل أذنه إلى الذين أشفقوا عليه أو سعوا عنده ليترضوه ويحملوه على العدول، أو وعدوه ما شاء غير الخلافة؛ ولم يكن يخفى عليه أنه يعاند ويكابر ويتحدى الأقدار، ولكنه كان يدرك أن هول المصرع الذي يسير إليه مصمما عليه سيطوي كل ذكر لما عداه، فلا يبقي إلا أن بني أمية قتلوا سبط الرسول وآله، ومثلوا بهم أقبح التمثيل. وكان يعرف أن بني أمية لابد أن يعدلوا عن محاسنته إلى المخاشنة لشدة ما يرون من عناده وصلابته، إذ كان لا يسعهم أن يتركوه يحرض الناس على الخروج عليهم، بلا كابح، وقد عرضوا عليه كل ما دون الخلافة فازدراه، فلم يبق مفر من رده بالقوة، كما شاء هو؛ وكان هو يعول في سياسته هذه على إحراجهم وإكراههم على البطش به، ويعتمد على ما تدفعهم إليه لجاجته في استفزازه لهم، فتطيش حلومهم، فتكون الطامة عليهم بعد أن تدور الدائرة عليه. وقد جرى كل شيء على ما قدر ورسم، وحدث ما كان ينشد، فأسرف الأمويون في القتل والتمثيل والتنكيل، كما كان يتوقع، وصدقت فراسته القوية في رجال الدولة على عهده، ولم يخب له ظن أو رأي فيهم، فريعت الدنيا، وهالها الأمر على ما كان قدر، وصارت كل قطرة من دمه، وحرف من اسمه، وهاتف من ذكراه، لغما في أساس الدولة الأموية
وقد ذهبت الدولة الأموية في سبيل من غبر، وجاءت بعدها دول أخرى لحقت بها، ومضى أربع وخمسون وثلثمائة وألف سنة، ولا تزال لذكرى مصرع الحسين هزتها الأولى في كثير من البلاد الإسلامية؛ ومأتمه يقام كل عام في كربلاء كأنما هو لم يقتل إلا الساعة؛ ويموت الشيعي في بغداد أو سواها فيحمل منها إلى النجف ليدفن هناك. وأحب آل البيت إلى النفوس وأعزهم عليها هو الحسين، ولا تزال العيون تغرورق بالدمع، والقلوب تخفق، والصدور تعلو وتهبط لحكاية هذا المصرع. فمن كان يصدق أن الحسين فعلها عن طيش أو سوء تقدير، أو تورط، فإني لا أصدق إلا أنه أقدم عليها متعمدا لها. ولو أن ميتاً استطاع أن يضحك ساخراً لضحك الحسين ورأسه بين أيدي قتلته البلهاء
ولست أعرف ميتة أخرى أبلغ أثراً في حياة الناس، ومستقبل الدول والأمم، ولا أطول منها - مع عمق الأثر - عمر ذكرى