أن يأخذها قلماً رصاصياً طويلا، فيقيمه على قاعدته وهو يسقط وهو يداريه ويعاوده حتى يستقر، ولا يكاد، ولا يبصر ذلك ولا يلقى باله إليه، كأنه يكره أن تبقى يده بلا عمل فهو يشغلها به، أو كأنه يرى هذا الدرس لا يستحق انتباهه كله، ولا يملأ هذا الرأس النادر. . . فيأخذه على أنه وتسلية، وكنا نورد عليه في آخر الساعة أسئلة من كل فن ومشاكل في كل موضوع فيجيب عنها كلها، بتحقيق العالم، أو ببلاغة الأديب، أو بنكتة الشاعر، ومن أجوبته الحاضرة، ونكته السائرة، أن طالبا (ثقيلا. . .) سأله:
- ما فائدة هذه الحروف اللثوية، ولماذا نقول ثاء، وظاء، فنخرج ألسنتنا، ونضطر إلى هذه الغلاطة؟
فقال له على الفور، وقبل أن يتم سؤاله:
- لا فائدة لها أبداً، وسنتركها ونجدد فنقول (كسر الله من أمسالك).
فسكت الثقيل خزيان.
ومن عجائب حلمه، وسعة صدره، ووقاره الذي لا يحركه شئ، أني أقبلت عليه مرة، بعد الدرس، وكانت لي عليه جراءة فقلت له أمام الطلاب:
- يا أستاذ. ما هذا القرار السخيف الذي وضعته البلدية، لتقسيم أرض الدرويشية؟ أليس من العار أن يصدر من بلدية دمشق هذا الجهل وهذا الظلم وهذا. . . .
وفي عشر مترادفات من هذا النمط، ساق إليها نزق الشباب فلما انتهيت منها قال لي، والابتسامة لم تمح عن شفتيه:
- أنا الذي وضع صيغة هذا القرار!
وراح يشرح لي مزاياه، ولكني لم أفهم منها شيئاً، وشعرت من الخجل كأن دلو ماء حار صب علي، وقد مرت على ذلك الآن خمس عشرة سنة، ولا يزال (يدوي) في أذني، فأشعر بالخجل من هذا الموقف.
وخرجت من الكلية وكنت أراه في الترام، أو ألمحه في الطريق، فأجد من إيناسه وسؤاله عني، وحفاوته بي، ما يملأ نفسي شكراً، وهذه مزية من مزاياه؛ يشعر كل من يلقاه أنه صديقه الأوحد، وأنه أقرب الناس إليه، وأنه لا يشتغل إلا بذكره ومعرفة أمره، والعناية به، وكنت أزور المجمع العلمي العربي، وهو من كبار أعضائه، فأراه أحيانا في مناقشات أدبية