الاقاليم. والحال الاجتماعية بطبقاتها وعاداتها واعتقاداتها في (حارة العبادية) بالمنشية، كانت هي الحال في كل حارة من حارات القاهرة. والحال الشخصية بتربيتها ونفسيتها وعقليتها في نفسه وأهلة وصحبه وجيرته، كانت هي الحال في كل فرد من أفراد الشعب. وإن في تصويرة البيت والسقاء والمحدث والكتاب والازهر، وفي وصفه لأبويه وأخويه، وصديقيه عبد الحكيم محمد وعلي فوزي، وأستاذيه عاطف بركات ومس بور، لنماذج من البيان المطبوع الذي يشرق بنور العقل وينبض بروح العاطفة. وإن من أجمل ما في الكتاب تلك البراعات الذهنية التي تبدهك بين الصفحة والصفحة في تحليل نفس، او تعليل حادث، أو تأثير شخص في شخص، أو موازنة حالة بحالة. على أن مثل (حياتي) في انبثاقها من البيت والحارة والكتاب والازهر، وفي تفرقها بعد ذلك في نواحي العمل ووجوه الارض وأشتات الامر، كمثل الدوحة العظيمة، تكون عند الجذع قوية غليظة مكتنزة، تضطرب بالحياة وتزخر بالخصب وتستمد غذاءها من جذورها الضاربة في جوف الثرى؛ فإذا تفرعت على ساقها انتشرت الاغصان وتشعبت الافنان فتوزعت الحياة، وتقسم الري، وخفت الحركة، ولكن فيها مع ذلك الجمال والظلال والزهر والثمر؛ فالقسم الأول من (حياتي) كأصل الدوحة عميق وثيق مكتنز لاستمداده من أعماق النفس؛ والقسم الآخر كفروعها هش الافنان منبسط الجوانب لامتداده في آفاق الطبيعة.
والكتاب بعد ذلك قد كشف عن سر من أسرار الصناعة في كاتبه. ذلك سر القصة. والنفس الفنانة عميقة كالكون. سحيقة كالابد، فلا تنتهي أسرارها حتى ينتهي المجهول، ولا تنقضي عجائبها حتى تنقضي الحياة!