العباب بالأمين وحسانه وقيانه ونداماه!. . . وتراءت لي على الشاطئ الشرقي قصور البرامكة الحزينة، يقابلها على الشاطئ الغربي قصور الخلفاء والأمراء تعج بالجواري والغلمان، وتضج بالشعراء والندمان، وتموج بالسادة والقادة والجند، وتفيض بالنعيم والجلال والعظمة، وتمثلت في خاطري بغداد الأمس كباريس اليوم في عدد سكانها، وفخامة بنيانها، واتساع رقعتها، وازدهار مدنيتها، وانبعاث الحضارة من مجامعها ومنابرها، وانبثاق الهداية من جوامعها ومنائرها. إلا أن باريس تشع في أجواء مشرقة تسطع فيها شموس أخرى تضارعها وتصارعها، أما بغداد التي عنت لها وجوه القياصرة، وكان من جندها أبناء الدهاقين والأكاسرة، فكانت شمساً واحدة ترسل الضوء والحرارة والحياة في القارات الثلاث فتبدد ما غشيها من ظلام وخمود ونوم
لا أدري متى كنت أصحو من نشوة هذه الذكريات الحلوة المرة، لو لم يعدني إلى وجودي صوت منكر من أصوات الحضارة الحديثة، قد انطلق من جوف مركب بخاري عظيم، كان يشق بحيزومه صدر دجلة، فسرحت طرفي في الأفق فإذا شمس الشرق تجاهد ظلام الغرب، وإذا القزعات قد ارتد بياضها سواداً ضربت في حواشيه حمرة الشفق، فصارت كأجنحة الغربان الدامية، أو كقطع من الفحم علقت بأطرافها نار حامية. ثم نظرت شمالاً فإذا المكان الذي سجدت فيه رسل (شارلمان) أمام الرشيد يخفق فوقه علم غريب، لا هو أسود ولا أبيض ولا أخضر وإذا قطع من السحائب السود قد انعقدت فوقه ملبدة هنا مبددة هناك. . . فقلت في نفسي ليت شعري أهذه بقايا أعلام الرشيد والمأمون، أم هذه أثواب الحداد لبستها سماء العراق على السعدون؟!