وشعر المديح استتبع ضرباً آخر من الشعر ليس أقل منه حطة في المرتبة وبعداً عن أغراض الشعر الصحيح، وهو الهجاء: لأن إرضاء الممدوح كان يستتبع ذم خصومه، ولأن المادح المخيَّب كان ينقلب في الغالب هاجياً مفحشاً لممدوحه أو للشاعر الذي زاحمه ونال الحظوة دونه، ولأن بعض الأمراء كان يشجع تراشُق الشعراء ببذيء القول شَغْلاً لأذهان الناس، وكان من ثمار هذه الخطة مقذعات جرير والفرزدق والأخطل.
واستتبع شعر المديح ضرباً آخر من النظم بعيداً عن الشعر الصحيح والشعور المستقيم امتلأ أيضاً بأنواع الأغراب والإغراق والإسفاف، ذلك هو النسيب الاستهلالي الذي ألتزمه الشعراء المدَّاحون من أهل الحضر تشبها بالمداحين من الجاهليين وإمعاناً في تقليدهم.
وكل هذه الرذائل التي تجمعتْ في شعر المديح - لخلوه من الدافع الوجداني والشعور الصادق - إنتقلت إلى ضروب القول الأخرى ففشت في الشعر كله عيوب التقليد والمبالغة والصناعة اللفظية ومحاولة إبداء البراعة.
واسترقَّت هباتُ الأمراء - للأسف الشديد - رِقَابَ معظم أقطاب الشعر العربي، فلم ينزِّه شعرَهُ عن طلبها إلا القليل جداً ممن أبت لهم ذلك ظروف خاصة، كالشريف الرضي وأبي العلاء، وأضِيعَ جانبٌ من عبقريات أبي نواس والطائي والبحتري وابن الرومي والمتنبي وغيرهم من الفحول في نظم الأكاذيب والمفارقات طلباً لجوائز الأمراء، فكان من أقوال هؤلاء الفحول:
تعود بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبضٍ لم تطعه أنامله
تكاد عطاياه يجن جنونها ... إذا لم يعوذها بنغمة طالب
وقد زعموا أن النجوم خوالد ... ولو حاربته ناح فيها الثواكل
وكشفن عن بَرَدٍ خشيتُ أذيبه ... من حر أنفاسي فكنتُ الذائبا
والمتأمل لهذه الأبيات يرى إلى أي حد من تفاهة المعاني وكذبها واستحالتها قد خرج المديح بالشعر وبفحول الشعر؛ بيد أن النُّقَّاد انساقوا في ذلك التيار، فعدُّوا هذا السفساف من غرر أولئك الشعراء وراحوا يقابلون بين هذه الأقوال ويفاضلون بين قائليها، والأديب الذي يريد من الشعر التعبير الصادق عن الشعور الصحيح لا يرى لأحدٍ من قائليها فضلاً بل يحذفها من عداد الشعر جملة.