للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولو أعرض أولئك الشعراء عن تلك السبيل وقَصَرُوا القول على بيان شعورهم الصحيح وأفكارهم الصادقة وتوفروا على الفن الذي حبتهم به الطبيعة جاعليه غاية لنفسه، إذن لربح الشعر العربي ربحاً جزيلاً ولَوَسَّعُوا من أغراضه وأوضاعه ورحّبوا من أطرافه وآفاقه.

هذا أثر تشجيع الأمراء للشعر وصلتهم للشعراء: إدخالٌ لفارغ القول وكاذبه وسفسافه، وإزاغة للنظرة إلى الغرض منه، وتقييد لأغراضه ومذاهبه، وقعود بهمم رجاله عن استيفاء غاياته، وصرفٌ عن جِدِّ التفكير ونافعه؛ ولو أراد الأمراء بالشعر خيراً لكفُّوا عن رجاله صِلاتهم فطلب الشعراء الرزق من أبوابه التي يطلبه الناس منها، ونَّحوا الشعر عن المادة، وأبقوه كما يجب أن يبقى ترجمانا لمشاعر النفس ووصفاً لروائع الكون فجاء الأدب العربي أشد انطباعاً بطابع الصدق مما كان.

لم يكن للأدب الإنجليزي - لحسن حظه - مثل هذا الاتصال الوثيق ببلاط الأمراء، ولم يتخذ حلية من حلي القصور وآلة من آلات السياسة إلا فترة وجيزة في أواخر القرن السابع عشر خالطه فيها الضعف والاستهتار والمجون وملاحاة، ثم كانت للأدباء بالنبلاء في بعض القرن الثامن عشر صلة، ولكن شتان بينهم وبين صلة من تقدم ذكرهم من الشعراء بالأمراء من العرب: كان الأديب يؤلف فيما عنَّ له ونال اهتمامه من موضوع ثم يهدي كتابه عند نشره إلى النبيل الذي يتولاه برعايته، وليس في هذا ضرر يقاس بالأضرار التي تقدم ذكرها في الأدب العربي.

وقد نشأ منصب شاعر الملك في إنجلترا منذ زمان، ولكن الشعراء الذين شغلوه لم يتوفروا على الملوك توفر شعراء العربية، ولم يشغل المنصب من كبار الشعراء إلا القليل، وكان اختيارهم لملئه تقديراً صحيحاً لسالف جهودهم في عالم الأدب، ولم يكن ما قالوه بصفتهم شعراء الملك بخير ما قالوا، ولم يكن بالكثير، ولم تزل وظيفة شاعر الملك تتضاءل حتى صار المنصب إسمياً فخرياً لا أكثر.

وقد جاء الأدب الإنجليزي لخلاصه من لوثة تشجيع الأمراء - أو بالأحرى تسخير الأمراء - وزلفى الأدباء إليهم حرَّ النزعة طليق الفكرة بعيد المرمى صادق التعبير، يعبر عن إحساسات الفرد ويترجم عن عواطف الجماعة، وانفسحت أمامه الآفاق إذ خلا من القيود، فتعددت أغراضه وتكاثرت أوضاعه، إذ كانت وجهته دائماً وجهة كل الفنون الرفيعة:

<<  <  ج:
ص:  >  >>