اسمعوا أيها السادة: قامت بين اثنين من فلاسفة الرأي مناظرة في صحيفة من الصحف وتساجَلا في مقالات عدّة، فلما عجز أضعفُهما حجةً وكعَمه الجدال، كتب مقالته الأخيرة فجاءت سقيمة، فلم ترضِه فبيَّتها ونام عنها على أن يرسلها من الغداة بعد أن يردد نظره فيها ويصحح أراءه بالحجج التي يفتح بها عليه. قالوا: فلما نام تمثَّلت له المقالةُ في أحلامه جسما حياً موهوناً مترضضاً، مخلوعاً من هنا مكسوراً من هناك، مجروحاً مما بينهما؛ ثم كلمته فقالت له: ويحك أيها الأبله. إن أردت أن تغلب صاحبك وتُسكتَه عنك فاحمل مقالتك إلى رأسه في العصا لا في الجريدة. . .
قال صاحب السر: وضحك القوم جميعاً وأذعنوا وانصرفوا مقتنعين قد خَلُصتْ دِخْلتُهم لذلك الرجل الحر وتفصَّلوا من جريمة كانت في أيديهم، وما جاء الباشا بمعجزٍ من القول ولكن تصويره للمسألة كان حلاً لها في نفوسهم. فلما أدبروا تنفَّس الباشا كأنما خرج من البحر وكان يتعاطى إنقاذ غريق ويعاني فيه حتى نجا؛ ثم قال لي: إن هذا كان جواباً عن شيء في أنفسهم ولكنه هو سؤال عن شيء في أنفسنا: ما الذي يجعل الناس عندنا يخشون المعارضة في الرأي الوطني حتى إنهم ليجازُون عليها بهذه العقوبة الشعبية المنكرة، وما بالهم لا يعطون الرأي حكمه وحقيقته بل يعطونه من حكم أنفسهم وحقائقها وشهواتها المتقلبة حتى لترجع الفروقُ الضعيفة المتجانسة في أبناء الوطن الواحد - وكأنها من الخلاف والمباينة فروقٌ جنسية كالتي تكون بين إنسان من أمة وإنسان من أمة أخرى تعاديها به.
قلت: إن رأى الكثرة قانون باشا.
قال: هذا صحيح ولكن بشرطين لا بشرط واحد: الأول ألاَّ يخرج الرأي على القانون، والثاني ألاَّ تكون الحقيقة في الرأي الذي يناقضه؛ ومحاولة إكراه المعارضة تفضٌ للشرطين معاً. ثم إن أساس الوطنية سلامة القلوب وصفاء النيات واستواء الموافق والمخالف في هذا الحكم؛ ومتى وقع الخلاف بين اثنين وكانت النية صادقة مخلَصَة لم يكن اختلافها إلا من تنوع الرأي، وانتهيا إلى الاتفاق بغلبة أقوى الرأيين ما من ذلك بد.
الحقيقة يا بني أن الجماهير ليست في تربيتها من الجماهير السياسية التي يُعتدُّ بها إذ لا تزال في أول عمرها السياسي وبهذا السبب وحده كان اختلاف الكبراء في السياسة لا يشبه