أن نثبت (النوع) الذي نراه وندركه قبل أن نراها، بل نحن لا نستطيع أن ندركها إلا في مرآة النوع ومواريثه. والفرد من غير النوع لا يستطيع أن يدرك شيئا من مواريث جنسه: ويكون كذلك (الإنسان الغزال)، أو (الإنسان القرد)، أو (الإنسان الذئب)، الذي يتحدث عنه الناس!
هذه هي القضية في سمائها العالية، وهي تحتاج إلى جناح قوي للتحليق وراءها، وتحتاج - كما قلت - إلى نظرة المفارق لنفسه ونوعه، الخارج بالفكر والخيال عن حدود وجوده، الراصد لنوعه رصد الملأ الأعلى ممن هم فوق الإنسان والملأ الأدنى مما هن دونه!!
ولم يدر صديقي الطنطاوي أن أولى الناس بالفرح والتأييد ل هذه القضية هم أمثاله من الدينيين الذين تهفو حياة قلوبهم إلى الإثبات واليقين، ويرون الكون لا معنى له أن لم يكن قائما على قيم ثابتة تعتمد على منطق الطبع ومنطق العقل ومنطق العمل.
والقضية مسوقة للرد أولا على الماديين الذين لا يعترفون بقيم ثابتة للوجود، و (الدرْونيين) الذين يقررون أن الإنسان ما هو إلا قرد نهض على قدميه وثرثر بلسانه وفرح بما ثرثر، وخلق لنفسه إلهة، ووضع موازين ومقاييس لخيره وشره، وزعم أنها موضوعة من (عقل) الكون، ويقررون أن عقل الإنسان ودينه وعلمه، إنما هي كالإفرازات المادية للكبد والمعدة وغدد السموم في العقارب والحيات، وأن ما يزعمه من قيم للأمور، إنما هي أعاليل يعلل بها نفسه ليخدعها، وليس بينه وبين (عقل) الوجود - أن اعترفوا به - صلة، وأن ما بينهما هوة لا يستطاع عبورها، وأن موازين (الخير) والشر عنده مسائل اعتبارية، وليس هناك وحي ولا نبوة، وأن ما بين الناس لا يزيد على ما بين النحل والنمل والبقر والبراغيث والبعوض - كما قال ذلك في الرد علي في هذه المجلة صديقي الأستاذ زكي نجيب محمود في سنة ١٩٤١ - وأن حياة أفراد الإنسانية إلى عدم لا رجعة بعده، كحياة مليارات أوراق النبات وأهراء الحبوب، وملايين الحشرات تأتي بها دورات وتذهب دورات أبدية من غير رجعة إلى مصير أكمل - كما قال ذلك كاتب متدين صوفي باحث كتب إلي من بيروت يطرح أمامي هموما ذهنية وشكوكا لحقته -.
أفتراني يا صديقي حينما أفتش في رحاب الكون والنفس عن فكرة جديدة اقذف بها على باطل القوم، أنتزعها من قوى الإنسان الفكرية والابتداعية النامية المنمية التي جعلت