للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

التشريح، وأن يتعلق بعرفانهم عرفان أخلاق الإنسان وأطوار الجماعات وأدواء الأجسام وآفات الضمائر، وأصبح الهمل المنبوذون أهلاً للدرس والفحص والمراقبة مذ أصبحت جثة الميت أهلا للعناية بها ومراقبة الأدواء والأدوية فيها. فإذا قال القائل الحديث: كيف تجد من يصورك وأنت لا تجد من ينظر إليك؟ فهو معبر عن رأي الأقدمين والمحدثين على حد سواء؛ ولكنه إذا سأل: من الذي يستحق النظر أو من الذي يستحق التصوير؟ فهنا يظهر الخلاف ويتبين الفارق بين شعار الفن القديم وشعار الفن الحديث

وقد أصاب (لونارد وولف) حين قرن بين هذا التغيير وبين الديمقراطية، وأصاب أكثر من ذلك حين قال: إن الأديان فتحت باب هذا التغيير حين عرفّت الإنسان أن له روحاً مستقلاً بحسابه، منفرداً بثوابه وعقابه، معدوداً أمام الله خلقاً لا يفنى في غمار الخليقة، ولا يزال له ميزانه وكتاب حسناته وسيئاته لا يختلط بميزان غيره ولا بكتابه

وتلك في الحقيقة هي أول خطوة خطاها الإنسان في إظهار (الفرد) وتمييزه من غمار الجنس كله أو الطائفة برمتها

فمنذ أصبح الإنسان (فرداً) معزولاً في حكم الدين، لا اختلاط بين حسناته وسيئاته وبين حسنات الآخرين وسيئاتهم، ولا التباس بين ثوابه وثوابهم وعقابه وعقابهم؛ هنالك أصبحت كل نفس بما كسبت رهينة، وأصبحت كل نفس حقيقة بالمحاسبة والإحصاء والمراقبة، ورسخت جذور الديمقراطية في التاريخ فلم يبق إلا أن تظهر لها على وجه الأرض فروع وأوراق وثمار

وغاية الفرق بين الفردية الدينية والفردية الديمقراطية أن حساب الدين إنما يكون في الآخرة فلا ضرورة لفرز الأفراد في هذا العالم الأرضي ولا لتمييزهم بالخصائص الدنيوية وما يتصل بها من الخلائق الاجتماعية والملامح الفكرية والأطوار السياسية

أما الديمقراطية فلا مناص فيها من التمييز بهذه المزايا ولا من فرز الناس على حسب ما يتراءى بينهم من فوارق الدنيا وعلامات الحياة وشياتها. ومن ثم بدأ التحليل النفسي بعد ظهور الديمقراطية ولم يبدأ تواً بعد ظهور الأديان؛ وكان من دواعي ظهوره مع الديمقراطية عدا ما تقدم أنها جاءت على أثر النهضة العلمية وعلى أثر انتشار العلوم والمباحث في أطوار الناس مجتمعين ومنفردين، فتيسر التحليل النفسي الذي لم يكن

<<  <  ج:
ص:  >  >>