للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ميسوراً قبل ذلك في صدر المسيحية أو في صدر الإسلام، وأمكن التفريق بين الأفراد في الطائفة الواحدة والجنس الواحد، لأنهم من جهة قد ملكوا الحرية التي يبرزون بها خصائصهم ونزواتهم، وينطلقون بها مع أهوائهم ورغباتهم؛ ومن جهة أخرى قد وجدوا من يدرسهم ويطبق عليهم قواعد العلوم ويصوب إليهم مجاهر النقد والملاحظة. ولم تكن أسباب ذلك كله مهيأة عند ما جاءت الأديان بدعوة الفردية الدينية وجعلت كل إنسان (روحاً) له حسابه وكتابه وليس بالقطرة المنسية في الغمار

على أن العبقريات الرفيعة قد سبقت نهضة الديمقراطية إلى تمييز (الخصائص الفردية) على اختلافها ولو كانت في أوضع النفوس وأهونها وأبشع مياسمها. فكان المصور العظيم (ليوناردو دافنشي) يتعقب المشوهين والمسخاء في الطرقات ويغريهم بالخمر والمال، حتى يتكشفوا عن سرائر نفوسهم، ويخرجوا من حجاز الكلفة والمهابة، فيرقص منهم من يرقص، ويهذي منهم من يهذي، ويقهقه منهم من يقهقه؛ وتزداد بذلك بشاعة وجوههم وفسولة طبائعهم، وهو ناظر إليهم يترقب لمحة عارضة فيسجلها بقلمه دون أن يقطع عليهم مجانتهم وخلاعتهم. وكان شكسبير يصور عشرات النساء وكل واحدة منهن امرأة غير سائر بنات حواء في حبها وبغضها وحيلتها وكيدها وكلامها وسلوكها، حتى لا مشابهة بين صاحبة هملت وصاحبة عطيل وصاحبة مكبث وبنات الملك لير إلا في صفة الأنوثة التي تشمل جميع النساء

أما من عدا هذه الطبقة من العبقريين فأبطالهم كما قال (لونارد وولف) نماذج يشترك في صفاتها المئات والألوف، فحسن التاجر البصري مثلاُ هو تاجر كسائر التجار، وهو عنوان طائفة وليس بفرد من الأفراد، وكذلك عجيب وغريب وغيرهما من أبطال ألف ليلة وليلة، هم نماذج للفرسان والأمراء، وللأخيار والأشرار وللشيوخ والشبان، لا تحس فرقاً بين أحدهم وبين غيره من أبناء قبيله وعامة أقرانه وزملائه، ولا مشابهة بينهم وبين أبطال القصص الحديثة - ولاسيما التحليلية منها - حيث ترى البطل فرداً ليس بالمتكرر وليس بالشائع بين أبناء صنعته وإخوان طرازه، وإن شابههم في صفة من الصفات فبمقدار ما يستدعيه اتفاق الصناعة واتفاق البيئة دون أن يفنى معهم في الغمار أو يغيب وراء العنوان

يلوح لي أن هذا الرأي الذي أجملته وتصرفت في تفسيره بما أخلى المؤلف من تبعاته -

<<  <  ج:
ص:  >  >>