للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

هو على الجملة رأي صواب لا غنى عنه في نقد الفنون والآداب

ولكني أفضل أن أقول إن التحليل النفسي لم يكن نتيجة الديمقراطية وإنما كانت الديمقراطية والتحليل النفسي معاً نتيجة شيء آخر: هو انتهاء الكشوف الظاهرة وابتداء الكشوف الباطنة، أو هو انتهاء السياحات الجغرافية وابتداء السياحات النفسية الإنسانية

ففي الوقت الذي ظهرت فيه القصة التحليلية كان الإنسان قد فرغ من كشف الأرض ووصل إلى أقصى مجاهل العالم المعمور

ولم تكن هناك قصة تحليلية قبل كشف الهند وكشف أمريكا وكشف المجاهل الآسيوية والأفريقية

فلما كشف كل هذه الأصقاع ووقف حب الاستطلاع والتماس الغرائب، من هذه الناحية، بدأ الالتفات إلى دخائل النفس وأخذت غرائب الأخلاق في الظهور، وأخذت العناية بها والتوفر على درسها في التقدم والشيوع

لقد كان معظم الرواية القديمة رواية رحلات ورحالين وكان الإنسان مشغولا بكشف (المكان) الذي يحيط به ويغريه بسحره ووعوده ومجازفاته، فكان شغفه بالاستطلاع والإحاطة بالدنيا مستغرقاً كله أو جله في هذه الناحية، وكان أمامه من العالم شيء يستوفيه ويستكمله ولا يزال له متعقباً متأثراً حتى ينتهي به إلى مداه

ولم يكن مجرد اتفاق ولا مصادفة أن تمت الكشوف الجغرافية وبدأت الكشوف النفسية في عصر واحد، فقد فرغ الإنسان من كشف الظاهر فانقلب إلى كشف الباطن، وعرف العجائب من البقاع المجهولة، فانثنى إلى العجائب من الخلائق الخفية، وكان هذا هو الترتيب الطبيعي المعقول في تاريخ الكشف والاستطلاع، فإن الاهتداء إلى المكان أسهل وأوجب من الاهتداء إلى سرائر الأخلاق، والعلم الذي يحتاج إليه المرء في سياحة جغرافية أقل من العلم الذي يحتاج إليه في سياحات الضمير، إذ هو في الواقع ملتقى جميع العلوم ومشتجر الفلسفات والديانات والمذاهب أجمعين

لقد بدأت الديمقراطية وبدأ التحليل النفسي معاً بعد كشف الأمريكتين وكشف الهند وكشف المجاهل الآسيوية والأفريقية، ولولا انكشاف الأرض للإنسان لبقي مشغولاً بالمجهول منها عن سرائره وخصائصه وما يتميز به الأفراد من حقوق وواجبات

<<  <  ج:
ص:  >  >>