نصف العين أنهم جد أحيا ... ء لهم بينهم إشارة خرس
يغتلى فيهم ارتيابي حتى ... تنقراهم يداي بلمس
ثم يمضي البحتري على هذا النسق في الوصف والشعور والتوجع في تسعة أبيات ينتقل بعدها إلى ما أصاب الإيوان من كوارث وأرزاء ثم لا ينسى أن يعزيه عما نزل به مشيراً إلى أن ذلك لا يعيب عظمته الخالدة ما دام لا يزال مشمخراً عالي الشرفات:
عكست حظه الليالي وبا ... ت المشتري فيه وهو كوكب نحس
فهو يبدي تجلداً وعليه ... كلكل من كلا كل الدهر مرسى
لم يعبه أن يُزَّمن بسط الديبا ... ج واستل من ستور الدمقس
مشمخر تعلو له شرفات ... رفعت في رؤوس رضوى وقدس
لابسات من البياض فما تب ... صر منها إلا غلائل برس
وبعد ذلك يظهر البحتري دهشته فيسائل نفسه أيستطيع الإنسان أن يبدع هذا الإبداع أم هي بدائع الجن للإنس:
ليس يدري أصنع إنس لجن ... سكنوه أم صنع جن لإنس
ومهما يكن من أمر فهو يؤمن أن الباني لم يكن ملكاً خاملاً ولا إنساناً حقيراً بل هو بانِ كانت تغص نواديه بالوافدين، وتعج مقاصيره بالقيان والمغنين، وهو من هؤلاء الملوك الذين سادوا الزمن فعنا لهم وانقاد إليهم فعاشوا حياة كلها رغد وهناء
فكأني أرى المراتب والقو ... م إذا ما بلغت آخر حسي
وكأن الوفود ضاحين حسرى ... من وقوف خلف الرخام وجَلس
وكأن القيان وسط المقاص ... ير يرجحن بين حُوّ ولعس
وكأن اللقاء أول من أم ... س ووشك الفراق أول أمس
وبعد كل هذا يبرز البحتري شاعراً لا يهمه من كل ما رأى إلا أنه مظهر حي يهز النفوس الشاعرة الحساسة فتبكي العز الزائل والملك الهاوي وتشيد بذكر الأمجاد أيا كانوا:
عمرت للسرور دهراً فصارت ... للتعزي رباعهم والتأسي
فلها أن أعنيها بدموع ... موقفات على الصبابة حبس
ذاك عندي وليست الدار داري ... باقتراب منها ولا الجنس جنسي