للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كل أمة لغتها كما يقولون - وكانت هذه اللغة تدرس وتقرأ ولكن نطاق ضيق محدود، وتجد من يحدب عليها ويرعاها ولكن في مجال غير فسيح؛ فبعد أن كانت بغداد هي مركز العصب الحساس للغة العربية وآدابها أصبحت في هاوية بعيدة الغور في غفوة الزمن، وبعد أن كانت البصرة في مربدها والكوفة في منبرها تنتجان وتتباريان أخلدتا إلى السكون والدعة، ولم يعد التاريخ يسجل للعربية علماً وأدباً إلا قليل مما تنتجه بعض المدن كالحلة والنجف والموصل وكان هذا الإنتاج بين تأليف لا عمق فيه ولا دقة، وشعر لا عاطفة فيه ولا تصوير، ونثر تشمئز اللغة من تراكيبه وأسلوبه. يجرف ذلك كله تيار من التقليد والمحاكاة. تقرأ للشاعر فلا تقع عينيك في ألفاظه إلا على الطلول والدمن، ولا تهيم معه إلا في حاجر وذي سلم؛ وهو بعيد عن ذلك في بيئته وحياته الاجتماعية. وتتطلب معانيه فلا تجد إلا وهي باهتة خابية لا حياة فيها ولا حركة ما عدا شعراء قليلين كان لهم نصيب من الشعر الجيد.

حتى إذا جاء القرنان الثاني عشر والثالث عشر للهجرة أخذ الشعر يتمطى بعد غفوة ويصحو بعد رقدة، لم يستطع أن يزيل عن جسمه غبار السفر البعيد أو يتخلص من بقايا التعب فلم يسلم من تبعات التصنع والتقليد. ومن أشهر شعراء هذه الحقبة كاظم الأزري ثم العمري والأخرس وحيدر وجعفر الحليان، والسيد الحبوبي وغيرهم كالشيخ جواد الشبيبي والشيخ جعفر الشرقي. وكان هذا العصر إيذاناً بعصر جديد وبنهضة شعرية جديدة نشط فيها الشعر وتحلل من القيود الصناعية والزخرف اللفظي، وانطلق من عقال التقليد في أغراضه ومواضيعه وفي أخيلته ومعانيه فواكب السياسة في أدوارها المختلفة وساير المجتمع في تطوره ودعا إلى الإصلاح والتحرر ومقاومة الاستعمار.

هذه النهضة الشعرية المباركة تلتقي عندها عوامل عدة وتقف إلى جانبها أسباب كثيرة، منها ما هو داخلي يعود إلى البيئة والطبيعة والثقافة المحلية، ومنها ما هو خارجي يعود إلى الاستعمار الذي خيم على العراق فحرك نفوس الشعراء، وإلى النهضات العلمية التي بدأت تنمو في مصر وسوريا، والصحافة العربية في هذه البلدان بما كانت تنقله من وعي وتبثه من علم وأدب.

فالبيئة العراقية حساسة ثائرة، والطبيعة متقلبة متحولة: شتاء قاس، وصيف شديد، وربيع

<<  <  ج:
ص:  >  >>