معتدل قصير العمر، وخريف عام كثير الرياح والزوابع، وأنهار تكاد تجف في الصيف وتطغى في الشتاء والربيع، وصحار خاوية لا نبت فيها ولا ماء، ومروج خضر تمتد بامتداد البصر. هذه الطبيعة بألوانها وصورها وخيرها وشرها معرض يطوف الشاعر في أرجائه فيتأثر وينفعل ثم يغني انفعالاته قصائد تحكي هذه الطبيعة وتصور انقباضها وانبساطها وسكونها وثورتها وكل ما فيها من مختلف ومتشابه.
وأما الثقافة المحلية فقد كانت في حدود الدين واللغة العربية في كتبها الصفر وفي بقايا التراث العباسي يستقي من مخطوط قديم أو من مطبوع جاءت به المطابع الهندية والإيرانية وندت به المطابع التركية إلى جانب ما تنتجه المطابع السورية والمصرية والعراقية في ذلك العهد ولا شك أن هذا الإنتاج كان محدوداً قليلاً، لذلك كانت الثقافة العراقية في أواخر القرن التاسع عشر لا تتجاوز الأفراد متفرقين في بغداد والحلة والنجف والموصل؛ حتى إذا أخذت الطباعة تنتشر والمطبوعات تتيسر أخذ الأدباء العراقيون يتسابقون إلى اقتناء الكتب العربية الدسمة واستيعابها والإفادة منها فتجاوز الأدباء حدود الأفراد وكثر الشعراء على ضفاف الرافدين، وكانت الذهنية العراقية تدفع الشاعر والأديب إلى التمحيص والاختيار فلا يقرأ الغث ولا يحفل بالرديء. هذا إذا كان الشاعر موهوباً قد هيأته الطبيعة وكونت فيه عنصر الشاعر تكويناً سليماً، لذلك كان الشعر العراقي فيما مر من القرن العشرين صافياً مشرق الألفاظ مركز الأداء إلى جانب معانيه الدقيقة وأخيلته السامية.
والاستعمار الخارجي كان يتمثل آنذاك في سلاطين العثمان وولاتهم ضباطهم وجنودهم يحكمون دنيا العراق السخية ويبتزون خيراتها ويفرضون أتاوتهم على كل إنسان بالقوة والسوط ويجندون أبناء العراق لحروبهم ومعاركهم، ومن يقعد عن الجندية يدفع البدل المرهق الذي تفرضه السلطات كما تريد، وتذهب هذه الخيرات إلى ليالي البسفور والدردنيل وإلى قصر يلدز وغيره. ويبقى العراق رازحاً تحت وطأة البؤس والفاقة والأمراض والطواعين. وكان من جراء ذلك أن انتشرت الرشوة وكثرت الإقطاعات بأيدي نفر من الزعماء يماثلون الولاة والحكام لتسلم لهم إقطاعاتهم ونفوذهم. هذه الصور والألوان يستعرضها الشاعر العراقي كل يوم فيتأثر وينفعل ويثور ويردد ثورته في قصائد يقذف بها