التحويل، وعدم فطنتهم إلى هذا التحويل هو سبب اندفاعهم في نصرة ما يسمونه حقاً وسبب إباحة كل وسيلة في نصرته؛ ومن هذا الطريق يدخل نفس الفاضل الحسن النية ما يدخلها من شر وقسوة ولؤم، فكل إنسان في الحياة يدخل في معنى الحق ما يتفق وحالات نفسه وخواطرها وآمالها ومسراتها وصداقاتها وعدواتها، وما يناسب نشأته وثقافته الخاصة وميوله، وهو يُدْخل ما يدخله في معنى الحق من غير أن يعمل عمل المنافق الذي يُخفي من رأيه غير ما يعرض على الناس، ولو سمينا طريقته في تحويل الحق إلى جانبه نفاقاً لكانت نفاقاً لا يحس صاحبه أنه نفاق
فإذا أضفت إلى هذا النفاق غير المقصود الشائع في كل نفس ما تقصده أكثر النفوس من تضليل العامد إلى النفاق المدبر، ظهر أن محاولة معرفة الحق أمر جاهد حقاً وظهر السبب في خطأ الناس في قدر مل يعرض عليهم من الأمور التي تسمى حقاً. إذ أن السعار والضراوة في نصرة ما يسميه كل إنسان حقا ليست مقصورة على صاحب النفاق المدبر الذي يعرف صاحبه أنه ينافق فيما يسميه حقا، بل إن الضراوة والسعار في نصرة الحق أمران قد يلفيان في نصرة صاحب النفاق غير المقصود لما ينتصر له من الأمر الذي يسميه حقا. ومن أجل ذلك قلما يعنى الناس أنفسهم بفحص ما يعرض عليهم من الأمور للوصول إلى الحق. فهم أيضاً في حكمهم شأنهم شأن صاحب الأمر الذي يعرضه عليهم كي يقبلوه، فهم إما يقبلونه على أنه حق إذا وافق هواهم وإما يعرفون بطلانه ووجه تزييفه ويدعون أنهم انخدعوا لصاحبه. فإذا خالف هواهم قالوا إنه باطل وهم في كل حالة قد يغالطون أنفسهم ويدعون الفحص والتمحيص ويعتقدون ما يعتقدون أو ما يتظاهرون باعتقاده بحسن نية، وقد يجتمع حسن النية والتظاهر، إذ أن النفس تستطيع أن تخادع نفسها حتى في تظاهرها بغير ما تبطن. ومن أجل غلبة الأهواء يقول البحتري:
أخيَّ إذا خاصمت نفسك فاحتشد ... لها وإذا حدّثت نفسك فاصدق
فقال احتشد لها لأن النفس أغلب بالأهواء وأملك بميولها، وفي البيت إرشاد إلى ثقافة ولكن الثقافة نفسها قلما تخلو من أهواء النفوس وقلما يستطيع المرء أن يحتشد لنفسه إذا خاصمها بالحق وقلما يحاول أحد تلك المخاصمة وذلك الاحتشاد للحق ما دام يلون الحق كما يشاء، ويصنعه صناعة أو يصطنع في نفسه وهو لا يدري. والحق يختلف أيضاً باختلاف آراء