للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المرء حسب حالات جسمه وأعصابه الناشئة من سقم أو صحة وقوة أو ضعف وحالات معدته ومطاعمه. ولو فكر المرء في اختلاف الحق حسب اختلاف مطالب المرء ونشأته وثقافته وحالات نفسه وجسمه فإنه قد يستطيع مع إدمان الفكر أن يقلل من ضراوته وأكاذيبه وحقده وغيرها من الوسائل التي يناصر بها الحق، على حد قول القائل إن الغاية تبرر الواسطة، فيبرر ضراوته وأكاذيبه وحقده لأنه يستخدم هذه الوسائل في نصرة الحق الذي هو أيضاً وليد أحاسيسه وحالات نفسه وجسمه

واستعراض هذه الأمور العديدة التي تشكل الحق في نظره يسقط حجته في أن الغاية الشريفة تبرر الواسطة الدنيئة إذ أن شرف الغاية معدوم أو إذا كان موجوداً فقلما يكون بقدر ما يشرف الواسطة الدنيئة. بل إن الواسطة الدنيئة تقضي على بقية الشرف في حقه الذي خالط فيه الصدق حاجات نفسه وميولها

والعصبيات تتلف الحق وتمنع المرء من الاحتشاد الذي أراده البحتري عند محاسبة النفس كعصبية المودة أو القرابة أو المصاهرة أو المنفعة المتبادلة أو عصبية الجوار والبلدة الواحدة، وهذه العصبية الأخيرة قلما تكون إلا إذا اختلف أهل البلدة التي استفحلت عصبيتهم عمن حولهم من أهل البلاد الأخرى اختلافاً في الجسم أو النشأة، ولا عيب في تلك العصبيات إذا التزمت جانب الشرف والإنصاف والضرورة القصوى، أما إذا تعدته إلى جانب الإسفاف والجهل والظلم بغير داع ضاع الحق في مطالب تلك العصبيات. وعصبية المصاهرة على ما بها من عيوب قد تكون مصدر قوة لطائفة كبيرة هي قوام الأمة أو شبه قوام، ولكنها إذا دخل فيها من لا يمتاز إلا بقوة الجسم، وارتفع إلى المصاهرة أناس من السفلة وأهل الغباء نشروا عدوى خصالهم الذميمة وآرائهم المخطئة من ذوي الأناقة في الخُلُق والرأي، ومن ذوي الاعتدال في الحكم، فتنقلب المصاهرة متلفة للحق ولأمور الناس

والضراوة في مناصرة مطالب تلك العصبيات التي تسمى حقاً تشتد كلما قلت الثقافة في أمة وزاد الشعور بالنقص في نفوس أبنائها وكثر التهريج والمهرجون الذين يخلقون لأهل الغباء مبادئ سامية من أحط نزعات نفوسهم.

وأحقاد الناس في الحياة ليست عبيد حاجاتهم وضروراتها بقدر ما هي عبيد هواجسهم المهمة التي تحلق في أذهانهم ونفوسهم كما تخلق الخفافيش تحت قبة البناء المظلم

<<  <  ج:
ص:  >  >>