المهجور، وذلك لأن الحاجات والضرورات تنقضي وتحد، ولكن الهواجس لا حد لها ولا انقضاء.
إن الإنسان لا يدهش كثيراً إذا وصف إمامه إنسان بالشر والمكر والسوء، وهو يعرف أنه أبعد الناس عن هذه الصفات قدر ما يدهش إذا كان هو الموصوف بهذه الصفات لأن دهشته في الحالة الثانية تعود على أمر يخصه ويؤلمه، والدهشة الممزوجة بالألم أشد وقعاً في النفس من الدهشة الخالية من الألم، ولأن كل إنسان يعرف من أسباب أقواله وأعماله مالا يعرف عن أسباب أقوال غيره وأعماله، ويعرف من حالات نفسه في تلك الأقوال والأعمال مالا يعرف عن أحوال نفس غيره، فهو بهذه المعرفة يستطيع أن يسوغ أقواله وأعماله، وبذلك الجهل لحالات نفس غيره لا يستطيع إلا إنكار أقوال غيره إن كانت تستدعي الإنكار أو تحتمله، وهذا بالرغم من أن كل إنسان يعرف من هواجس السوء التي تتردد في نفسه أكثر مما يعرف من هواجس السوء في نفس غيره. فإن الإنسان لا يستخدم ميزاناً واحداً فيما بينه وبين الناس؛ فهو مثلاً يكذب كثيراً ويعد كذبه أمراً هيناً فإذا كذب غيره في حقه عده لؤماً ليس بعده لؤم.
كل هذه الحقائق حقيقية بأن تزهد المفكر المتأمل في سعاره أو ضراوته في مناصرة ما يسميه حقاً وأكثره ليس بحق، وهي حقيقة بأن تزهده في رأي من يرى أن الغاية تبرر الواسطة، إذ إن خطأه في قدر الغاية قد يكون عن حسن نية، ولكنه قد يسوقه حسن النية إلى أعمال اللؤم والإجرام في سعار مناصرته للحق المزعوم الذي في تلك الغاية التي أخطأ فيها وعدها نبيلة وهي ليست نبيلة، وحسن نيته في ذلك الخطأ لا يخليه من أثم ولؤم ذلك السعار وتلك الضراوة
أن الذين يُعنون أنفسهم بالبحث عن الحق قليلون ولا سيما البحث عن الحق في أمور حياة الناس التي تتحكم فيها الأهواء والأوهام، وقد يحسب الساذج أن الحق في حياة الناس كالحق في علم الحساب بمقدار معين لا شك فيه ولا تغير، ولكن الساذج إذا اختبر الحياة واستطاع أن يقضي بخبرته على سذاجته علم أن أحوج الناس إلى مظاهر الحق هم أهل الباطل، ومن هذه الحاجة نشأ سعارهم، ولم ينشأ ذلك السعار من شدة الإخلاص للحق بل من شدة شعورهم أنهم على باطل يحتاج إلى مظاهر الحق