يعتريه الفناء. والأخرى (باكون ولوك) تسخر من كل هذا، ولا تعرف الا هذه الحقائق الفردية التي نراها ونلمسها. التقى هذا المذهبان في رأس ليبنتز فوقف منهما، موقفاً وسطا، وأخذ من كل منهما بمقدار، ففرض أن العالم يتكون من ذرات أولية لا تقبل التجزئة وليس لها امتداد، ثم زعم أن كل ذرة منها (يلاحظ إننا نستعمل كلمة ذرة هنا في شيء من التجوز لأن الذرة المادية تختلف عن الذرة التي فرضها ليبنتز في أن للأولى امتدادا وإنها تقبل التجزئة، واما الثانية فروحية تتألف من القوة لا من المادة) حقيقة متميزة مستقلة الا انها في الوقت نفسه تشمل صورة الكون بأسره في جوفها وتمثله أدق تمثيل. وبقدر دقتها في هذا التصوير والتمثيل يكون دنوها من الكمال، فهي فردية من ناحية وكونية من ناحية اخرى. ولابد لنا لكي نفهم ليبنتز على حقيقته أن نتناول بالشرح نظريته في الذرات ثم فكرته في إئتلافها، كما نلم برأيه في المعرفة وطريقة وصولها إلى الذهن. وسنرى أنها محاولة أخرى للتوفيق بين ديكارت ولوك، فقد مزج بين ما ارتآه الأول من وجود آراء فطرية تولد مع الطفل عند ولادته ولا تجيء عن طريق التحصيل، وما ذهب إليه الثاني من ان العقل يخرج إلى هذا العالم صحيفة بيضاء ثم تخط فيها التجارب ما تشاء.
١ - نظرية ذرات القوة
مم تتكون أجزاء هذا الوجود؟ مم يتكون هذا الرجل وذلك الماء وتلك القطعة من السكر؟ يجيب ديمقريطس أن هذا الوجود على تباين ظواهره إنما يتكون من ذرات اجتمع بعضها إلى بعض، فكونت هذا الشيء أو ذاك، وينكر ديكارت وسبينوزا هذا القول ويؤكدان أن اجزاء العالم على اختلافها إنما تتكون من مادة كونية متحدة لا تنقسم إلى أجزاء لأنها عنصر أولي واحد، ولكن ليبنتز يرد الفكرتين جميعا، فهذه المادة الكونية التي فرضها سبينوزا شاملة للوجود تبرز الكون حقيقة واحدة تتلاشى فيها كل الحقائق الفردية التي نصادفها في الحياة العملية، وتلك الجزئيات التي زعمها جماعة الذريين أصلا للأجسام، لابد ان تكون (نظريا على الأقل) قابلة للتقسيم إلى مالا نهاية، مادامت قطعا من المادة، لأن الذهن لا يستطيع أن يتصور جزءاً ماديا لا يقبل التجزئة، وإذن فهي مركبة ونحن إنما نقصد إلى أيجاد أبسط العناصر التي يمكن اعتبارها أصلا مطلقا للكون. فلابد لنا من الإمعان في البحث حتى ننتهي إلى عنصر لا يقبل التجزئة، ويكون له في الوقت نفسه