عثارها، ويتكرر نفارها. وهي - في الحق - راضية في قرارتها، هانئة في أعماقها؛ لأن ما تصنعه لها الأقدار يتلاءم مع سجيتها، وينسجم مع طبيعتها. وهكذا تبدو بائسة يكاد يأكلها البؤس، ونحسة يكاد يطويها النحس. فتقر بقلقها من دار إلى دار، ومن سبيل إلى أخرى. تنشد ما تزعم من سعادة وعزاء، شاكية آنة، باثة حانة. حتى إذا ما ظفرت نفرت وإذا وصلت فصلت. ولم تستطب هذا الاستقرار، ولا ما هيأه لها من سعادة، ولا ما دعاها إليه من لهج بالحمد والثناء.
تتجاذبنا هذه الخواطر كلما جلسنا إلى ديوان ابن نباتة الشاعر المصري الكبير، لنقرأ طرفاً من أبياته؛ إذ نرى فيها شاعراً بادي القلق ظاهر البؤس، كثير الشكاية، وتلك سمة واضحة في شعره، وفي مراحل حياته.
كان جمال الدين بن نباتة (٦٨٦هـ - ٧٦٨هـ) أمير شعراء مصر في جيله غير منازع، وهب الله له نفساً أديبة خصيبة، وخيالاً واسعاً رحيباً، ولساناً طيعاً، ومنطقاً مصوراً بارعاً. فهام لذلك في أودية الشعر، وطرق الجم من فنونه. وحق له أن بفخر بقوله:
فما الدر إلا دون نظم أصوغه ... وما القصر إلا دون بيت أشيده
ويقول:
من مبلغ العرب عن شعري ودولته ... أن ابن عباد باق وابن زيدونا
ظن ابن نباتة، وقد طاع له من القول عصيه، ودان له من الشعر أبيه، أن من حقه على الزمن أن يسعده لا يجحده، وأن ينعمه لا يشقيه، وأن يهيئ له من أسباب الرضا ما تقر له عينه، وتطيب به نفسه، حتى يستبقى جهده، لفنه وحده لا تشغله عنه شواغل الحياة، ولا تقعده دونه هموم الرزق.
ظن ابن نباتة ذلك، ولم يعلم أن الزمان قد استحال، وأن الدهر قد تغير، وأن دولاً ذهبت، وجاءت على أنقاضها دول. وأن الملوك قد استعجمت بل والشعوب، وذهبت أيام الرواج للشعر، وطويت بسط الإنشاء، وانفض سامره، وقضى عهد التكسب، وقبضت يد العطاء عن الشعراء، وأقفلت في وجوههم جنات النعيم.
هذه حقيقة فطن لها انداده من شعراء عصره فلووا جيدهم وانصرفوا عن التكسب بالشعر إلى التكسب بغيره. فكان منهم العالم الفقيه، أو الكاتب المنشئ، أو التاجر المتنقل، أو