المعترف الصانع. والتمسوا الرزق بالوظيفة في القضاء أو الكتابة في الدواوين، أو التجارة والصناعة. ورفهوا عن أنفسهم بين الفينة والفينة بأبيات من الشعر ينظمونها في حاجاتهم النفسية. ولم يسلموا مصيرهم إلى يد الشعر، يستمطر لهم الرزق من الملوك وأشباه الملوك، كما كان أسلافهم في عهد بني أمية، وعهد بني العباس - حتى بدا لبعضهم أن يحمل على صناعة الشعر، ويفضل عليها صناعته الدنيا التي يقتات منها. ويعلل لذلك فيحسن التعليل، ويوري فيجيد التورية. وقد قال أبو الحسين الجزار (٦٧٩ هـ):
كيف لا أشكر الجزارة ما عاش ... ت حفاضاً وأرفض الآدابا
وبها صارت الكلاب ترجِّي ... ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا.
أما ابن نباتة، فقد صمم على أن يعيش لفنه، لا تلهيه عنه تجارة أو بيع. . . ظانا أنه سيدر عليه من الذهب النضار، ومن الفضة النثار. فانساق إلى مهواة التكسب حتى أدركته حرفة الأدب، ولحقه كساد الشعر وبواره. ولم يجن من وراء ذلك إلا القلق والبؤس وصار كما يقول عن نفسه وهو بدمشق، متذكراً ما مضى من أيامه:
شهور وصل كساعات قد انقرضت ... بمن أحب وأعوام كأيام
ولَّت كأني منها كنت في سنة ... ثم انبرت لي أيام كأعوام
مقلقلاً بيد الأيام مضطرباً ... كأنما استقسمت مني بأزلام
قد حرمت حالتي طيب الحياة بها ... كأن طيب حياتي طيب إحرام
هي المقادير لا تنفك مقدمة ... وللحجا خطرات ذات إحجام
وهذه حالة لا مفر منها، مادام قد طرق أبوابها، وسلك رحابها. وما ظنك بمتكسب في غير سوق، وسادر دون وثوق. ليقرع بابا، ويهجر مقصوداً لييمم شطر مقصود. هذا يعطيه وذاك يمنعه، وهذا يهب له وذاك يدفعه. وهو ما بين هذا وذاك ساخط على من حرمه وقلاه، شاك فيمن منحه وأعطاه. هذه - لعمرك - حياة المتبطل الكسول الذي يلبس لبوس عصره، ولم يرتد مسوح زمانه. يقول:
يا سائلي بدمشق عن أحوالي ... قف واستمع عن سيرة البطال
ودع استماع تغزلي وتعشقي ... ماذا زمان العشق والأغزال
طول النهار لباب ذا من باب ذا ... أسعى لعمر أبيك سعي الظلال