للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وبقول منها:

أترى الزمان يعينني بولاية ... أحمي بها وجهي عن التسآل

زحل يقارن حاجتي وقد انحنى ... ظهري من الهم انحناء الدال

لم تهتم المقادير بإجابة ابن نباتة إلى سؤله، بل ادخرت له في جعابها أقسى ما ادخرت لإنسان. وحفظت له في قرابها أحد ما أرهقته لامرئ. وهي تعلم - بلا ريب - خبيآت نفسه ومغيبات حسه. فادخرت له ما ادخرت، وأرهفت ما أرهفت لملاءمته لها. وبذلك وحده، ينبغ أدبه، وينبغ فنه، ويصبح شاعر البؤس والشكوى. وما كلُّ بائس بملتئم مع بؤسه في أعماق نفسه. أما ابن نباتة فقد نعم بهذا البؤس، لأن نفسه وجدت فيه معيناً لشكايتها حتى خلقت لتجيدها وتحسن القول فيها. لهذا جاء شعره ترجماناً صادقاً عن مطوى نفسه، ولساناً معبراً عن مذخور حسه. وصارت الشكوى في خلال أبياته، على اختلاف منازعها، اللون الأصيل، واللحن المشترك، الذي لا تتم ألوان القصيدة أو أنغامها إلا به، يقول وقد عجل إليه المشيب:

عجبت خلتي لو خط مشيبي ... في أوان الصبا وغير عجيب

من يعم في بحار همي يظهر ... زبد فوق فرعه الغربيب

من يحارب حوادث الدهر بخفي ... لون فوديه في غبار الحروب

أي فرع جون على عنت الأ ... يام يبقى وأي غصن رطيب

لو همي ماء معطفي من ال ... ين لأفنته مهجتي بلهيب

ونعتقد أن ابن نباتة، كان في مقدوره أن ينجو بنفسه بعيداً عن نحسه، وأن يجنبها مشاق الحياة ووعثاء العيش بالأرتزاق بإحدى الطرق المألوفة في زمانه، وأيسرها عليه الكتابة في ديوان الإنشاء. ونعتقد أنه لو سعى جاداً إلى الوظيفة لظفر بها. فهو لا يقل باعاً ولا يقصر ذراعاً عن رؤساء هذا الديوان، إن لم يكن في الإنشاء أحفل منهم وأفضل. ولا ندري ما نعلل به حرمانه من وظائف الديوان - وما خلقت إلا لأمثاله - إلا وثوقه من شعره واعتقاده أنه سيكون سبيله إلى الغنى والثراء والعيش الكريم، وإلا خوفه مما في الديوان من قيود ونظم لا تتلاءم مع قلقه وحبه للتنقل. ولعل استحواذ جملة من أدباء العصر - أمثال العلاء بن الأثير، وأبناء فضل الله العمري - على قلب الناصر سلطان مصر حينذاك، كان

<<  <  ج:
ص:  >  >>