على أن ابن نباتة كانت لأبيه ثروة بدمشق وبمصر، وكان يعينه بشيء منها بين الآن والآن. فلما مات أبوه بدد ما ورث في مسارح اللهو ومطارح الهوى ومغامرات الشباب، وأنفق وأسرف، وبذر واتلف، كأنما وعده القدر أن يهيء له الأمل الجديد في المستقبل السعيد. ولكن القدر ضحك منه ملء شدقيه وأسلمه للحاجة تأزمه، وللفاقة لا ترحمه.
هذه أمور كان لها أثر في ابتئاسه وشكواه. ويأبى الدهر إلا أن يضاعف له في هذه الأسباب كلما تراخت الأيام وتطاولت عليه الليالي.
فقد ابتلى بالزواج الباكر. والزواج الباكر نعمة وعصمة، لولا مسئولياته الضخمة وأعباؤه الثقال. ولو كان ابن نباتة في بحبوحة من العيش، وسعة من النعمة، لما أرهقه الزواج وآده. وقد كان شاعراً. والشاعر تطن الأحداث في دنياه الباطنة طنيناً مضاعفاً. وكانت أوتار نفسه تجيد ألحان الشكوى، فوجدت في أحداثه ما يحسن التوقيع عليها.
لقد ولد له نحو ستة عشر وليداً. والأبناء عزة وقوة وزينة، إلا مع الفاقه، فإنهم ذلة وجبنة ومذمة. . . هكذا جرى العرف بين الناس. يقول ابن نباتة:
لقد أصبحت ذا عمر عجيب ... أقضى فيه بالأنكاد وقتي
من الأولاد خمس حول أم ... فوا حرباه من خمس وست
ويقول:
كنت في الشعر جواداً ... يحرز السبق بلمحه
فثناني العسر والأو - لاد لا أملك فسحه
كلُّ ابن لي وبنت ... كشكال لي وسبحه
وزناد القول لا يس - مح في وجهي بقدحه
وتأبى الأقدار مرة أخرى إلا أن تتخذ من هؤلاء الأبناء هدفاً تقذفه فيه وتصميه منه. فقد كان أبناؤه يموتون واحداً إثر واحد إذا بلغوا الثامنة أو نحوها. فتكررت فجيعته في كلُّ واحد منهم يوم ميلاده ويوم وفاته. . . بكاهم وأودع في رثائهم ما في قلب الأب من وله ولوعة، وما في صدره من زفرة، وفي عينه من دمعة ورثاء الأبناء من أمر ضروب الشكوى. يقول الشاعر في رثاء ولده عبد الرحيم.