نظارة كبيرة تزيد وجهها عبوساً، وكان من الطبيعي قيام المجتمعين لتحيتها، ولكن هيئة قيامهم، وهيئة انتظارهم مصافحتها إياهم جعلتني أعتقد أنها سيدة المجلس وأميرة المجتمعين، تلك هي مدام كوري التي وقف الجميع لها وقفة الجنود أمام القائد، كما وقفت منعزلاً أفكر في هذه الجماعة المنسجمة من العلماء
ثم انتهت هذه الضيافة وانصرف كل إلى سبيله. وما أصبح اليوم التالي حتى كنت عند مدام كوري في معملها الخاص ومعهد أبحاثها، فوجدتها بين الأجهزة والمعدات المختلفة أهدأ بالاً مما كانت بالأمس حيث لا يرهقها التكلف الذي تضطر إليه بحضرة الرجال. ثم حادثتني قليلاً وقضينا الوقت في التفرج على ما في المعمل من أجهزة وأدوات
كانت تلك السيدة البولونية ذات عيون سوداء قلقة، لامعة كالنجوم، وجميع ملامح وجهها مشربة بالحدة التي في عينها، وعلى الرغم من خشونة مظاهرها، تلك الخشونة التي هي سمة العلماء، فقد ظهرت شيئاً فشيئاً بلين الجانب ووداعة النفس حتى لقد لاحظت ابتسامة خاطفة تشرق من شفتيها في بعض الأحايين. . .
وكانت صورة زوجها التي تعلو رأسها رمزاً ناطقاً لما كان بين هذين الزوجين من تعاون وتعاضد في العمل، فقد كان يجمع إلى صفات الرجل الواسع الخيال، ذي القريحة الوقادة، ما تمتاز به المرأة من تطلع للخلق والابتداع، بينما كانت هي على الضد من ذلك أقرب إلى صفات الرجولة منها إلى الأنوثة، أو بعبارة أخرى كانت تتمثل فيها العلوم الطبيعية بأسرها
وسواء هي في حياة زوجها أم بعد موته فقد كانت تحكم عواطفها وتسيطر على احساساتها بحيث لا ينم حديثها الحازم الدقيق عما يعتلج في صدرها من عواطف واحساسات
ولم يكن المجتمع مديناً لهذين الزوجين باختراعهما السحري الذي أنقذ الملايين من الهلاك، وبصغيرتهما الأنيقة في حسن الذوق فحسب، بل إنه مدين لهما أيضاً بفتاة أخرى هي أولى ثمار حياتهما الزوجية التي ترسمت خطاهما في العمل
وبينما كنت أتحدث مع والدتها في المعمل إذ دخلت علينا بخطى الشباب وألقت نحوي نظرة استفسار وتقصٍ. وعلى الرغم من أنها رشيقة القوام لدنة الغصن فقد كان يبدو عليها الامتعاض من أن أجنبيا يزور المعمل فيعكر عليهما صفاءه التام
وقد رأيتها على جانب عظيم من طهارة الملائكة الذين أجاد سكان فلورانس الأقدمون