سذاجة الريفي ووداعة الطفل: نشرت لي جريدة السفور هذه القصيدة وقدمتها بهذه الكلمة. . . ثم أدى المقدمة عن ظهر الغيب وهم بإنشاد القصيدة. وكنت حين ذكر (السفور) قد أصغيت سمعي وجمعت بالي، فلم يكد يفرغ من سرد المقدمة حتى صحت به:
- أأنت صاحب هذه القصيدة؟
- نعم.
- وأنا صاحب هذه المقدمة.
عجيب!!
كان ذلك في سنة ١٩١٨، وكانت جريدة السفور يحررها يومئذ الأعضاء الأصدقاء من لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكان النظر فيما يرد على الجريدة من الشعر موكلاً لصديقي الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى عبد الرزاق، ولي. . فألقى إلينا البريد فيما ألقى هذه القصيدة غفلاً من الإمضاء، فقرأناها للاختيار، ثم قرأناها للاختبار فوجدنا قوة الشاعر الموهوب تطغى على ضعف الناشئ البادئ، فضننا بها على السل، وصححنا ما فيها من خطأ، وقدمت لها ببضعة أسطر تنبأت فيها بنبوغ الشاعر، ونصحت له أن يرفد قريحته السخية بمادة اللغة وآلة الفن، وأخذت عليه أن يكره قيثارة المرح على النغم الحزين واللحن الباكي وهو لا يزال في روق الشبيبة كما يقول في شعره.
ثم تعقبت بعد ذلك علياً: تعقبت آثاره، وتعرفت أطواره، وتقصيت أشعاره، فإذا الفراشة الهائمة في أرياض المنصورة ورياض النيل تصبح (الملاح التائه) في خضم الحياة، (والأرواح الشاردة) في آفاق الوجود، و (الأرواح والأشباح) في أطباق اللانهاية! وإذا الناشئ الذي كان يختشب الشعر ويتسمح فيه، يغدو الشاعر المحلق بجناح الملك أو بجناح الشيطان، يشق الغيب، ويقتحم الأثير، ويصل السماء بالأرض، ويجمع الملائكة بالناس، ويقضي بين حواء وآدم!).
من هذه الكلمات التي كتبها الأستاذ الزيات عن الشاعر، ومن دراستنا الخاصة لحياته على ضوء صلتنا به وقراءتنا له، نخرج بان شاعرنا المصري كان في الفترة الأولى من عمره - أي وربيع العمر في أبانه - كان صاحب شخصية انطوائية. . وبقدر ما كانت هذه الشخصية منطوية على نفسها فيما قبل الثلاثين، كانت فيما بعد الثلاثين شخصية أخرى لا