في مجال العلم رجل لا يملك حتى الثقة بنفسه والاعتزاز بكرامته. وعندما تضطرب النفس وتتقاذفها الآلام كيف تريدها أن تصبر على كشف مجهول أو متابعة حقيقة أو استقصاء رأي. نعم إن العلماء في كافة بقاع الأرض لا تأخذ نفوسهم شهوة المادة، وتعلقهم الأول إنما هو بجوهر الفكر الخالد، ولكن هذا لم يمنع الهيئات الاجتماعية التي يعيشون بينها من أن توفر لهم أسباب الحياة، وتمكنهم من وسائل البحث. وأما نحن فمتى وضعنا معملاً تحت تصرف عالم، أو رزقاً ضرورياً في متناول أديب. وهبنا أيدينا استعداداً لأن نفعل ذلك فكيف السبيل لهذا العالم، أو ذاك الأديب أن يظهر مواهبه في بلاد بلغ فيها التفاوت في الثراء مبلغاً عض معه الفقر ملايين من البشر الذين لا يمكن أن نعدم - لو واتتهم الفرص - أن نعثر بينهم على نفر ولو قليل ممن حباهم الله مواهب النفس.
إذن فعدم تهيؤ الجو الثقافي الصحيح في منازلنا ودور تعليمنا من جهة، وفساد نظمنا الاجتماعية والاقتصادية من جهة أُخرى عاملان كبيران في تكييف العقلية المصرية. ولربما كان هذا هو السبب في أن الكثيرين ممن يعودون من أوربا من شبابنا لا يلبثون قليلا قليلا أن يخمد ضغط الوسط ما فيهم من حماسة ويثبط ما في قلوبهم من عزم بحيث لا نستبعد لو أن أحدهم بعد تخرجه باشر حياته العملية في أوربا لاستطاع خيراً مما يستطيعه هنا، وإن كنت لا أنكر أن نفراً غير قليل منهم لم ينزحوا إلى الغرب إلا بعد أن أخذوا طابعاً شبه نهائي، وكانت أمزجتهم من الصلابة بحيث لم تستطع ملابسة الوسط الجديد والتشبع بثقافته وطرق حياته؛ فلم تجد فيهم رحلة ولا أجدى اغتراب.
والآن كيف السبيل إلى علاج تلك الظاهرة. وهنا قد يصيح بي صائح، ولكن السبيل واضح تستطيع أن تجده فيما أسلفت من قول، فما عليك أو علينا إلا أن نصلح نظمنا، وأن نهيئ ما تريد ونريد من جو ثقافي في منازلنا ودور علمنا، ولكن هذا الصائح لن يلبث أن يوقعنا في دور؛ فمن لي ولكم بإنجاز ذلك، وهو لا يبدو هيناً إلا في الكتابة؟ هذه إصلاحات لابد أن يسوق إليها رأي عام قوي، وهذا الرأي لن يتكون إلا باستنارة العقول. والسبيل إلى تلك الاستنارة هو أن نسكت في نفوسنا النعرات الباطلة، وألا نستنكف في الأخذ عمن سبقونا في الحضارة، وألا نمل تكرار ما نأخذه عنهم، حتى يستقر في النفوس وينزل منها منزلة الإيمان؛ فعندئذ يصبح الفكر عملا، وإذا بعقليتنا السلبية القابلة تستحيل إيجابية فاعلة. فاليوم