لي تحت كل شجرة منه ذكرى لا يدريها إلا الله وقلبي وذلك القلب الذي سلا وقلى. . . وما سلوت ولا قليت، وما أذعت له سراً ولا أفشيت.
وفي طريق صيدا، كم صببت من العواطف، واستودعت من الذكر؟ سلوا تلاميذي طلاب الكلية الشرعية في بيروت، ألم يشهد لنا هذا الطريق أنا كنا خير من مر به من إخوان متوادين، قد جمعت صداقتهم قلوبهم فمزجتها كلها، ثم قسمتها، ثم أعادتها إليهم، فعاشوا جميعاً بقلب واحد، والأصدقاء يعيشون بقلوب شتى.
هؤلاء الأخوان الذي وفيت لهم فوفوا لي، وأحببتهم فأحبوني، ورأيت منهم لما رضيت فيهم ما لو تخيله القصصي الأديب لاستُكثر وعد مبالغة من المبالغات.
وفي العراق كم خلفت من حياتي، وما الحياة إلا خفقات القلوب، وتردد الأنفاس، ومظاهر العواطف.
على طريق الأعظمية، وفي الكرخ الأقصى في حي الجعيفر، وعلى الجسر في الأعظمية، وفي البصرة، وفي كركوك، بقع أعزة علي وقوم أحبة إلي، لولا خوفي من ألا يصدقوني لحلفت لهم أنه لم يطب لي بعدهم عيش، فهل يكتب الله العودة لتلك الليالي، فيجتمع الشمل، ويلتئم الصدع، وتلتقي الذكريات بالآمال؟
إني أسأل الله، فنبئوني، هل مد يده أديب بغداد الأستاذ الأثري، فقال: آمين؟
يقولون لي: انس، ولكن كيف السبيل إلى النسيان؟
وكيف أنسى أيامي في مصر، مصر التي محت صورها السنون من نفسي، فلم يبق منها (ويا أسفي!) إلا صورة ميدان باب الخلق مجازي في غدوي ورواحي، وحديقة الاستئناف التي كنت أتأملها وأنا في المطبعة (السلفية) عند خالي، والتي استودعتها من العواطف عداد أوراقها وأزهارها وحبات ترابها، ودار الكتب التي كان بها الشاعر الكبير حافظ رحمه الله، وشارع محمد علي، والعتبة الخضراء (الضيقة) التي لم تكن تخلو يوماً واحداً من ميت مدعوس، وصورة زقاق حوله أنقاض مهدمة ومنازل حقيرة بالية، كنت أمر به كل يوم في ترام السيدة، في ذهابي إلى دار العلوم وعودتي منها، يسمى شارع الخليج، زعموا أنه صار اليوم شارعاً عظيماً، وصار به بنيان. . . وجسر الزمالك حيث كان يطيب لي الوقوف بازائه كل مساء، أتبع ببصري الشمس الغاربة، علي أرى فيها صورة بلدي دمشق، فلا