أرى إلا بريق الشعاع الحاد يتكسر خلال الدموع التي تملأ عيني، دموع ابن العشرين، وقد هاج في نفسه الشوق الذي يسميه لامرتين (مرض السماء) لو كان في السماء أمراض.
وصورة حديقة الجيزة، التي كنت أقضي فيها الساعات الطوال، آنس بوحوشها وهوامها، وصورة بستان إلى جانبها فيه عمال يبنون، قالوا: وقد تم البناء، وصار شيئاً عظيماً يدعى جامعة فؤاد الأول، والله أعلم بصحة ما قالوا.
صدقوني إذا قلت لكم إني آسف على شيء مما صنعت في حياتي أو تركت أسفي على ترك مصر، ولا أطمع في شيء طمعي في العودة إليها والحياة فيها، فهي التي سددت خطواتي في طريق الأدب، وهي التي علمتني، وهي بلد أسرتي، وهي التي جعلتني قبل اثني عشر سنة أكتب وأنشر الفصول في أكرم المجلات، حين كان هؤلاء المحترمون من تلاميذ الشيخ مارسيه على مقاعد المدرسة الابتدائية.
أفليس عجباً أني على حبي لمصر كنت في نظر بعض زملائنا المدرسين المصريين في العراق، عدو المصريين رقم (١)؟ سامح الله زملاءنا هؤلاء، وغفر لهم ما كادوا لي ومكروا بي، وغفر لي ما آذيتهم بلساني السليط!
وكيف أنسى ما أضعت على نفسي من خير، وما عرض لي من فرص فما افترصتها؟
إن من رفاقي في كلية الحقوق من هم اليوم من كبار المحامين الذين يشار إليهم، ومن ينال على وقفة واحدة في المحكمة مائة جنيه في دمشق الفقيرة، فلماذا أعرضت عن المحاماة لم أشتغل بها، وأقبلت على مهنة آخذ فيها خمسة جنيهات على مائة درس ألقيها على أربعين طالباً، يحتاج إسكاتهم وضبطهم إلى شرطيين مسلحين بالبنادق الرشاشة. . .
وإن من رفاقي في الثانوية من هو اليوم ناظر ثانوية كبيرة، وأنا أستاذ معاون، فلماذا درست الحقوق إذا كانت الوزارة لا تعرف أقدار الرجال إلا بما يحملون من شهادات الاختصاص، وكان صاحب اللسانس في الحقوق لا يعد أديباً في نظرها ولو كان شوقي زمانه، أو رافعي أوانه، وترى صاحب اللسانس في الأدب أديباً ولو كان أعيا من باقل، وأجهل من جاهل؟. . . وكيف أنسى أني كنت من عشر سنين أقود طلاب دمشق كلهم، وأغامر بهم في ميادين السياسة، وأني لو شئت لكنت نائباً من زمن طويل. إن الناس لم ينسوا ذلك فكيف أنساه أنا؟ إنهم يعلمون أن في قميصي خطيباً ما يقوم له أحد في باب